“الجزائر والساحل: عندما يعقد المنعزل ملتقى الجوار”

بوشعيب البازي

في مشهد لا يخلو من الكوميديا السوداء، نظّمت الجزائر ملتقى وطنياً حول الوضع في منطقة الساحل، بحضور نخبة من الخبراء والضباط و”العارفين ببواطن الأمور”، وذلك رغم أن الدولة المضيفة قطعت، أو كادت تقطع، آخر خيوط التواصل مع كل دول المنطقة المعنية. ملتقى عن الساحل بدون الساحل؟ أشبه ما يكون بمهرجان للموسيقى تُمنع فيه الآلات!

فبينما تغلق الجزائر حدودها البرية، وتبادل خصوماتها الدبلوماسية مع مالي والنيجر بالتصريحات الحربية، وتطرد السفراء وتُسقط طائرات بدون طيار، تفتتح في المقابل ندوة عنوانها “الحوار والتعاون”، وتُروّج عبر إعلامها الرسمي لرواية الأخوّة الإفريقية والتضامن التاريخي، وكأن العداوة التي تراكمت لم تكن سوى سحابة صيف عابرة.

الملتقى جاء بإشراف وزارة الدفاع – نعم الدفاع، لا الخارجية – وهذا وحده كافٍ لفهم المزاج العام في الجزائر الجديدة، حيث تغلب لغة البزّة على ربطة العنق، ويُدعى الضباط لا الدبلوماسيون إلى الحديث عن حسن الجوار، بينما الطائرات المسيّرة تُمارس مهام “التحية العسكرية” من الأجواء المالية.

الجنرال شنقريحة، في كلمته الافتتاحية، قدّم مرافعة طويلة عريضة عن التزام الجزائر بالحوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، معطوفة على كلمات عن الأخوّة والأمن والتكامل، دون أن يرف له جفن أمام المفارقة الفادحة ، من يتحدث عن احترام سيادة الدول هو نفسه من أسقط طائرة فوق دولة ذات سيادة، ويشتكي لاحقاً من “تملّص” الطرف الآخر من مسؤولياته!

الغريب أن هذا الملتقى، الذي خلا من الحضور الإقليمي الفعلي، وخلت بياناته من أي جديد عملي، بدا وكأنه موجّه بالدرجة الأولى إلى الداخل الجزائري ، محاولة دعائية لطمأنة الرأي العام بأن الجزائر لا تزال “فاعلاً محورياً”، حتى وإن كانت قد أُخرجت من كل غرفة عمليات، أو غادرتها غاضبة، أو طُلب منها ألا تعود!

أما عن “الدور التنموي” و”المشاريع المهيكلة” التي تحدّث عنها شنقريحة، فهي تشبه تماماً الوعود الكبرى التي يُطلقها النظام في كل الاتجاهات: ضخمة، باذخة، مشروطة بالسكوت، ومعدّة للاستهلاك في نشرات الأخبار أكثر من الأرض الواقع.

من جهتها، تتابع عواصم الساحل الملف بصمت ساخر، لا لشيء سوى لأن الجزائر قررت – من جانب واحد – أن تمثل نفسها وتمثلهم في آن. لا تعنيهم كثيراً بيانات اللجان، ولا تفتنهم مداخلات الضباط، فقد اختاروا منذ زمن مقاربة تقوم على التحالفات الواقعية والبراغماتية الأمنية. روسيا، تركيا، وأحياناً حتى الفاغنر، أقرب إليهم اليوم من خطب “الحوار المغاربي” الذي تحوّل إلى فلكلور دعائي قديم.

في نهاية المطاف، يبقى ملتقى الجزائر حول الساحل تذكيراً مؤلماً بأن السياسة الخارجية حين تتحوّل إلى منبر لتهدئة الداخل، فإنها تفقد تدريجياً أي صدى لها في الخارج. فالمبادرات لا تُقاس بحجم الندوات ولا بعدد الأوسمة على الصدور، بل بمستوى الثقة، التي للأسف باتت مفقودة بين الجزائر وعمقها الإفريقي.

أما عن الحوار، فلن ينطلق فعلاً من منصة أحادية الصوت، بل من ميدان يلتقي فيه الجميع… بما فيهم من لم يتلقَّ بعد دعوة إلى الملتقى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com