جبهة التحرير الوطني… سفينة تغرق بركابها وهم يرددون النشيد الوطني

مجدي فاطمة الزهراء

لو لم تكن القصة حزينة، لكانت مضحكة بحق. ففي الجزائر، حتى الثورات داخل الأحزاب تحرص على تقديم فروض الولاء والطاعة. آخر مشهد من مسرحية جبهة التحرير الوطني (الأفالان) جاء هذه المرة على شكل “مبادرة تصحيحية” يقودها جناح غاضب من داخل الحزب، يطالب بمؤتمر وطني جامع، بدعوى إنقاذ الحزب من الرداءة… لكن دون أن ينسى تمرير التحية لرئيس الجمهورية وقادة المؤسسة العسكرية.

فما هذا؟ تمرد أم تملق؟ ثورة أم توسل للعودة إلى حضن السلطة؟

التمرد الخجول… بضمان ولاء مسبق

بقيادة النائب عبد القادر قاسي، دشنت “هيئة التنسيق الوطنية لإنقاذ جبهة التحرير الوطني” تحركها على مستوى البلديات والولايات، وكأنها حركة مقاومة سرية تريد “تحرير” الحزب… من إدارته الحالية فقط، لا من السلطة التي تأمر وتنهى في شؤونه منذ عقود.

البيان الصادر عن هذه الهيئة لم يخلُ من العبارات الخشبية: “الإنقاذ”، “الإصلاح”، “إعادة الهيبة”، كلها مصطلحات تُستعمل منذ عقود دون أن يتغير شيء. لكن الجديد – أو لنقل الطريف – هو أن الإنقاذ هذه المرة لا يعني القطع مع التبعية للنظام، بل إعادة توزيع الغنائم داخل نفس الدكان.

حزب بحجم دولة… أم دكان بحجم حزب؟

منذ استقلال الجزائر، تحول حزب جبهة التحرير من واجهة للثورة إلى واجهة للسلطة، ثم إلى أداة ضمن أدوات التوازنات بين أجنحة الحكم. ولأن لا شيء يُحسم في العلن، فإن كل أزمة انتخابية أو استحقاق سياسي يكشف الصراعات الخفية بين الرئاسة، والمخابرات، وبعض جنرالات الجيش.

النتيجة؟ جبهة التحرير لم تعد حزبا، بل “وظيفة تنظيمية” موزعة حسب الولاءات. الأمين العام الحالي عبد الكريم بن مبارك يواصل سياسة “تثبيت الولاء مقابل الإقصاء”، وهي القاعدة الذهبية التي طبّقها من سبقه منذ مطلع الألفية. أما المناضلون الحقيقيون، فقد تحولوا إلى شهود زور في حفلة عبث سياسي.

عود على بدء… من بن فليس إلى تبون

منذ صراع 2004 بين علي بن فليس والموالين لبوتفليقة، لم يعرف الحزب استقرارا. تداول عليه زعماء من الوزن الثقيل: بلخادم، سعداني، ولد عباس، جميعي، بوشارب… لكن لا أحد منهم استطاع أن يجعل من الحزب مؤسسة سياسية حقيقية. كلهم كانوا أشبه بمدير شركة عمومية مفلسة، يغيرون اللافتة ويحتفظون بنفس طرق التسيير.

واليوم، مع الرئيس تبون، فقد الحزب حتى تلك الوظيفة الرمزية. إذ تم تقليص دور الطبقة السياسية إلى مجرد ديكور انتخابي، بينما تُقدّم “المجتمع المدني” كمنافس جديد (وأكثر طواعية) للهيمنة على المشهد العام. وبما أن الأحزاب الموالية لا تملك خيارا سوى البقاء في معسكر النظام، فإن “التمرّد” داخل الأفالان لا يخرج عن كونه صراعا على “من سيكون أكثر ولاءً”.

ثورات الكراسي… لا المبادئ

رغم كل الشعارات التي ترفعها التنسيقية الجديدة – من قبيل “استرجاع الحزب”، و”تمكين المناضلين”، و”مؤتمر جامع” – إلا أن الواقع يقول شيئًا آخر، لا أحد يريد تحرير الحزب من السلطة، بل الجميع يريد مكانًا أقرب إلى مركز القرار.

فالانقسامات داخل الحزب ليست تعبيرًا عن تيارات فكرية أو توجهات سياسية، بل مجرد صراعات مواقع. حتى في أوج الحراك الشعبي، حين كانت الملايين تهتف بسقوط النظام، ظل الحزب يسبح عكس التيار، متمسكًا بولائه لأركان الحكم، وكأن شيئًا لم يكن.

جبهة التحرير… من الثورة إلى التماثيل

اليوم، لم يعد الحزب سوى ظلّ شاحب لتاريخه. صراعاته الداخلية أشبه بمسرحية هزلية، بطاقم ممثلين يبدّلون مواقعهم على الخشبة، لكن النص يبقى نفسه. وحتى “المنقذون الجدد” لا يطرحون مشروعا سياسيا، بل فقط رغبة في الجلوس على الكراسي.

فهل يُعقل أن تكون “الثورة التصحيحية” التي يروجون لها، مجرد محاولة لاستبدال فريق إداري بفريق آخر، دون أن يُمسّ جوهر العلاقة الفاسدة بين الحزب والدولة؟

ربما حان الوقت لإخراج هذا الحزب من غرف الإنعاش، وتركه يرتاح في متحف التاريخ.

فالتحنيط خير من التنكيل، حتى في السياسة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com