مغاربة العالم ونداء العرش: تجسيد حي للولاء والتضامن العابر للحدود

عبد السلام العلكي

يبدو المشهد، للمتابع المتجرد والموضوعي، أقرب إلى سوريالية سياسية-اجتماعية تستعصي على التفكيك التقليدي، حين يتعلق الأمر بالعلاقة التي نسجها الملك محمد السادس مع مغاربة العالم. علاقة فريدة في عمقها، متجذرة في روح البيعة، ومترجمة في تفاصيل يومية من السياسات والمبادرات، جعلت من قضايا الجالية المغربية بالخارج بندًا ثابتًا في أجندة العرش.

منذ اللحظة الرمزية التي اختار فيها الملك شخصيًا استقبال بعض أفراد الجالية في ميناء طنجة، لم تكن المسألة مجرد بروتوكول؛ بل إعلان عن مسار استراتيجي أراده العاهل المغربي واضح المعالم: مغاربة العالم ليسوا طرفًا آخر في الوطن، بل امتدادٌ له. وقد عزز هذا التوجه حضورٌ وازن في الخطب الملكية، وتكريس دستوري لمكانة الجالية، وبنية مؤسساتية تتوجه نحو تأطير دورهم وتعزيز مساهمتهم الوطنية.

ففي خطاب العرش الأول، قال الملك بوضوح: “جميع المغاربة بالنسبة لنا إخوة من رحم واحدة وأبناء بررة متساوون تشدهم إلينا روابط التعلق والولاء”، وهي جملة تختزل فلسفة الحكم في علاقته بالمغاربة داخل الوطن وخارجه.

وقد أثبت مغاربة العالم، غير ما مرة، أنهم على مستوى هذا الخطاب من المسؤولية والانتماء، فكانوا حاضرين في الملاحم الوطنية، من المسيرة الخضراء التي شهدت مشاركة 138 مهاجرًا، إلى لحظات التضامن الكبرى كما حدث خلال جائحة كوفيد-19 أو زلزال الحوز سنة 2023، مرورًا بمساهماتهم الحيوية في الاستثمار وتحويلاتهم المالية التي تشكل دعامة استراتيجية للاقتصاد الوطني.

التفاعل مع نداء أمير المؤمنين: امتثال واختيار ووفاء

في هذا السياق من الارتباط العاطفي والشرعي بالمؤسسة الملكية، لم يكن تفاعل مغاربة العالم مع الرسالة الملكية الصادرة يوم 26 فبراير 2025، بشأن عدم تأدية شعيرة ذبح أضحية عيد الأضحى، سوى امتداد طبيعي لتلك العلاقة المتجذرة. وقد عبّرت الجالية المغربية بالخارج عن هذا التفاعل، ليس فقط من باب الامتثال، ولكن انطلاقًا من فهم عميق لمغزى النداء الذي صدر عن أمير المؤمنين، المكلف شرعًا ودستوريًا بإقامة شعائر الدين.

ورغم أن بلدان الإقامة لا تعاني من أزمة في القطيع أو في التموين، اختار آلاف من مغاربة المهجر الامتناع عن الذبح، تعبيرًا عن تضامن راقٍ مع إخوانهم داخل الوطن، ووفاء لروح البيعة الجامعة، التي لا تقف عند حدود الجغرافيا.

وقد حاولت بعض الأطراف الخارجية التشويش على هذا الموقف الجامع، عبر استغلال الجدال الفقهي حول الوقوف بعرفة أو مشروعية التضحية خارج السياق المغربي؛ غير أن الرد العملي جاء صامتًا ومدويًا في آن: مغاربة الخارج، رغم اختلاف السياقات، اختاروا مرة أخرى أن يصطفوا خلف الملك، كما فعلوا طيلة عقود.

إمارة المؤمنين: من السياسة إلى الفقه والشرعية

ليس من المبالغة القول إن مضامين الرسالة الملكية الأخيرة تجاوزت الطابع الظرفي أو التدبيري، لتؤسس لمبدأ فقه الدولة الذي تمثله إمارة المؤمنين، والمبني على البصيرة والتقدير الشرعي والمصلحة العامة، كما أكدته الآية الكريمة التي استُهلت بها الرسالة: “قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني”.

وهو ما يُعيد إلى الواجهة مسؤولية المؤسسة الملكية، ليس فقط في حماية الدين، بل أيضًا في تنزيل أحكامه في سياق الدولة الحديثة، بشكل متزن، يجمع بين الشرعية الفقهية والمصلحة الوطنية، ويراعي الضرورات دون المساس بالثوابت.

دروس من التضامن ونداء الانتماء

إن المشهد العام لتفاعل مغاربة المهجر مع دعوة العاهل المغربي، يقدم للعالم نموذجًا نادرًا: جالية منخرطة في مجتمعاتها الغربية، لكنها تحتفظ بروح الوفاء والانتماء لبلد الأصل، لا تُلزمها فيه لا قنصليات ولا إكراهات قانونية، بل فقط رابطة البيعة والانتماء الأخلاقي إلى وطنها وملكها.

وإذا كان البعض يعتبر أن الشعائر هي الحد الفاصل بين الإيمان والتدين، فإن مغاربة المهجر أثبتوا أن التضامن في طقوسهم أبلغ من الطقس ذاته، وأنهم لم يتوقفوا عند حدود الفتوى، بل اختاروا الانخراط في روح الرسالة، وفلسفتها التضامنية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com