في زمن لم يعد يُميز فيه المرء بين فصيل مسلح وموظف في هيئة الأمم، تجد “جبهة البوليساريو” تتخبط في جغرافيا الرمال المتحركة، وتناور سياسيًا كما تناور الجمال العطشى في الصحراء، بعناد وبدون بوصلة. بعد نصف قرن من التلويح بـ”حق تقرير المصير” (في الهواء غالبًا)، ها هي الجبهة تواجه مصيرًا لم يكن في الحسبان: مطالب دولية متزايدة بتصنيفها كمنظمة إرهابية، لا لأنها فجرت حقولًا أو أسقطت طائرات، بل لأنها فقدت كل شرعية سياسية وتحولت إلى ميليشيا موسمية تخرج للضجيج كلما سخنت رمال تندوف.
أما الجزائر، راعية المشروع الانفصالي و”حاضنة المقاومة الرملية”، فتبدو هذه الأيام كمن أضاع البوصلة وخرائط القرن، فهي محاصرة سياسيًا من الخارج، ومحتقنة اجتماعيًا من الداخل، وعاجزة عن تبرير تمويل جماعة مسلحة تعيش على فتات المعونات الدولية وتحتفي بالبطاطا كإنجاز سيادي. اقتصاد غارق في الهشاشة، نخب تتحدث أكثر مما تفكر، وإعلام رسمي لا يزال يعتقد أن “المخزن” يخطط للسيطرة على المريخ.
في المقابل، المغرب لم يعد يفاوض، بل يفرض واقعًا جديدًا على الأرض. فبعد سنوات من العمل الدبلوماسي الهادئ والمكائد المضادة المتقنة، باتت خريطة المملكة مع صحرائها كاملة غير منقوصة على مكاتب الأمم المتحدة، وشاشات واشنطن، ومؤتمرات الرياض. أكثر من 30 دولة فتحت قنصليات في العيون والداخلة، والرباط لم تعد تطرق الأبواب بل تُفتح لها. الدبلوماسية المغربية تفوقت بذكاء شديد: تحالفات دقيقة، هدوء في الخطاب، وضربات موجعة في التوقيت المناسب.
في هذا السياق، من الطبيعي أن تُصاب البوليساريو بنوبة هلع سياسية، إذ لم يعد لها من حليف سوى نظام جزائري تتقلص مساحته الدبلوماسية كلما اتسعت خريطة المغرب، وتضيق نوافذه كلما اتسعت نوافذ الاتفاقيات المغربية مع إفريقيا، الخليج، والغرب.
أما الوضع الجيوستراتيجي في المنطقة المغاربية، فهو أشبه بلعبة شطرنج، يملك المغرب فيها الوزير والقلعة والفرس، بينما ما زال النظام الجزائري يراهن على “البيدق الصحراوي” الذي لا يتحرك إلا بخطوة واحدة إلى الأمام. تونس، التي دخلت في غيبوبة سياسية منذ فترة، تلعب دور المراقب المرتبك، فيما موريتانيا تحاول البقاء في الحياد مثل طالب كسول لا يعرف إلى أي مجموعة سينتمي في ساحة المدرسة.
المرحلة القادمة لا تبشر البوليساريو إلا بمزيد من العزلة. فبين ملف حقوق الإنسان الذي يُطاردها، وارتباطاتها المريبة مع جماعات تنشط في الساحل والصحراء، بدأت الصورة تتضح دوليًا: لسنا أمام حركة تحرر وطني، بل أمام كيان عسكري يتغذى من الأوهام والدعم النفطي الجزائري.
في النهاية، لعل الجبهة تفكر اليوم في تغيير اسمها من “جبهة البوليساريو الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب” إلى “رابطة المنسيين في تندوف”، على الأقل لتصبح أسماءهم منطقية مع واقعهم. أما الجزائر، فربما عليها التوقف عن استثمار الملايين في معركة خاسرة، وتوجيه تلك الأموال إلى شراء الغاز المسيل للحناجر الداخلية، قبل أن ينفجر كل شيء دفعة واحدة، وتتحول الخريطة من سؤال حدود إلى سؤال وجود.