في بلدٍ أُنهك طويلاً من التصريحات الرسمية التي تَعِد ولا تفي، ظهر أخيرًا ما يشبه بصيص نور… من نوع رقمي. فقد أعلنت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أن المغرب قرر أن يدخل الحرب على الفساد بسلاح فتاك: صحافة البيانات. أجل، بالبيانات. وليس بأي بيانات، بل تلك التي يمكن أن تفكك شبكات المصالح المعششة في الصفقات العمومية مثلما يفكك خبير فيزياء نووية ذرة هيدروجين.
الحدث جاء بحماسة علمية غير مسبوقة، إذ صرح رئيس الهيئة، محمد بنعليلو، بأن الوقت قد حان ليدخل الصحافي المغربي مختبره الرقمي ويبدأ في تقليب البيانات كمن ينقّب عن الذهب… أو بالأحرى عن تضخم غير طبيعي في صفقة شراء أقلام لمصلحة وزارية.
قالها بنعليلو بوجه لا يبتسم كثيرًا ، “الرهان اليوم على الصحافي ليكون جزءًا من ديناميكية وطنية لا تهادن الفساد ولا تتواطأ مع الصمت”. كلمات من ذهب. ولولا أن الندوة كانت مخصصة للصحافيين لاعتقدنا أننا أمام إعلان تعبئة وطنية شاملة، وشيك الهجوم على جبهة الرشوة الممتدة من جماعة قروية نائية إلى سلالم إدارة مركزية في قلب العاصمة.
الهيئة، التي اكتشفت أخيرًا أن الصحافي يمكن أن يكون أكثر فاعلية من تقرير مطول بلغة بيروقراطية لا يقرأها أحد، قررت أن تمسك العصا من وسطها. فهي – بحسب بنعليلو – تحتاج إلى وسطاء مهنيين محترفين لترجمة مؤشرات النزاهة من لغتها الأصلية (Excel) إلى لغة المواطن (العربية أو الدارجة أو حتى رسوم بيانية على فيسبوك).
لكن، لحظة… ألا تبدو الأمور معقدة بعض الشيء؟ صحافة بيانات؟ تحليل معطيات؟ ربط جداول ومصادر وقواعد شفافة؟ كيف لصحافي مازال يبعث مقالاته عبر واتساب ويتذمر من “تغطية الويفي” أن يتحول بين ليلة وضحاها إلى خبير في علم البيانات؟ الجواب بسيط ، دورات تدريبية، وطبعًا بعض “الإرادة المجتمعية الجادة” كما جاء في البلاغ.
ولن ننسى محمد الغلوسي، الصوت الحقوقي العتيد الذي حضر ليذكرنا أن محاربة الفساد لا تعني بالضرورة التشهير بالحياة الخاصة. أي نعم، يمكن أن تكون مسؤولا فاسدا، لكن في حدود اللياقة، رجاءً. دعوا الناس تسرق بشرف، من فضلكم.
الغلوسي كان واقعيًا أيضًا حين أشار إلى أن تراجع الفعل السياسي وضمور الأحزاب جعل من الصحافة والمجتمع المدني خط الدفاع الأخير. تخيلوا! نحن – من كنا نُتهم بالتحامل على المؤسسات – أصبحنا الآن أمل الوطن، شرط ألا نبالغ في نزع الغطاء عن رؤوس مقدسة.
الهيئة، في لحظة إلهام قانوني، قررت أن توصي بجعل تاريخ اكتشاف الفساد هو بداية احتساب مدة التقادم. خطوة ذكية، وتحديدًا لمن يعرف أن بعض الملفات لا تُكتشف إلا بعد أن يهاجر “المشتبه فيه” إلى دولة جارة ويبدأ في إلقاء المحاضرات عن “المواطنة والكرامة”.
ولا يمكن أن نغادر هذه الكوميديا الرقمية من دون التوقف عند الجملة الذهبية لبنعليلو ، “الشفافية ليست مجرد شعار أو تقرير رسمي، بل يجب أن تُترجم على صفحات الصحف الجادة…”. جميل جدًا، لكن ماذا لو أن أغلب هذه الصحف صارت تابعة لمن يُشتبه في كونه سبب انعدام الشفافية؟ ماذا لو تحولت التحقيقات إلى إعلانات مدفوعة؟ أو اختُزلت في “ريبورتاج” عن سيدة تنجح في بيع الحليب الطبيعي وسط مدينة فيها 17 علامة تجارية مدعومة؟
في النهاية، دعونا نعترف ، لا حل لدينا سوى البيانات. نريد صحافة لا تكتفي بتغطية البلاغات، بل تفضح العقود المشبوهة، وتوضح لنا لماذا كلفت دورة تكوينية في جماعة قروية 800 ألف درهم، بينما غطى الصحافي الحدث بـهاتف مكسور وبطارية على وشك الانفجار.
عسى أن تكون هذه الصحافة الجديدة بداية لمرحلة ينقرض فيها الفساد… أو على الأقل، يخجل قليلاً.
ملاحظة ختامية: الرجاء من أي مسؤول يفكر في رفع دعوى، أن يرسل لنا أولاً جدولًا بيانات يثبت نزاهته. Excel فقط، لا PDF