طفل الجندي: حين يصبح الحنان ترخيصًا عسكريًا

بوشعيب البازي

في إحدى زوايا هذا الوطن الواسع، يعيش طفل لم يعرف كلمة “بابا” إلا في صور باهتة معلقة على الحائط، أو في رسائل صوتية تُسجل على عجل حين يُسمح لشبكة الهاتف أن تمرّ من حاجز عسكري. أبوه جندي مغربي، لا يغيب لأنه لا يحب، بل لأنه اختار أن يضع جسده سداً أمام رصاص البوليساريو. كبر هذا الطفل وسط أسئلة لا تجد جوابًا: لماذا لا يرافقني والدي إلى المدرسة؟ لماذا لا يحضر حفلاتي؟ ولماذا لا أشعر بيده على رأسي عندما أنجح؟ الجواب بسيط ومعقّد في آنٍ واحد: الأب مرابط في الصحراء… منذ ربع قرن.

الأم؟ لا تقل شجاعةً. امرأة واحدة، بأدوار ثلاثة: أم، وأب، وموظف كاتبة ضبط مع الحياة. توقظ أطفالها صباحًا، تطبخ، تنظف، تحل الواجبات المدرسية، تعاتب المدير إذا تطلّب الأمر، وتبكي في صمت عندما يسأل أحدهم: “واش باباك ميت ؟”. فترد، وابتسامتها تسبق دمعها: “لا… باباه حي، ولكن الوطن خاطفو”.

أما الأب، فهو هناك… حيث الرمل يغدر والخطر لا ينام. كل يوم يضع اسمه في لائحة “الناجين إلى إشعار آخر”، يصد الهجمات، ويبتلع الشوق، ويُمنع من “التعلق العاطفي” كي لا يضعف عند سماع صوت طفله في الهاتف. يُسمح له بالزيارة مرة كل سنة – إذا سُمح – بقرار مكتوب، كأن الحنان يجب أن يمرّ عبر تسلسل القيادة. يأتي، يحتضن، يضحك، ثم يرحل قبل أن يعتاد أحد على وجوده. وطنٌ كريم في إجازاته، بخيل في إنسانيته.

وبعد خمس وعشرين سنة من الرمال، والكمائن، والرعب، والعيد من دون أولاد، والميلاد من دون زوجة، يأتي الجندي بطلب بسيط: “دعوني أعود قرب أولادي”. لكن، في مفارقة ساخرة من فيلم بيروقراطي عبثي، عليه أن يدفع. نعم، يدفع! رشوة صغيرة “لتيسير” عودته من أرض الجبهة إلى حيّه الشعبي. الوطن يطلب منه أن يحميه مجانًا… لكن إذا أراد الاقتراب من أسرته، فعليه أن “يقدّم تسهيلات”.

وحين تنتهي رحلته مع الحياة، يعود إلى بيته… لا حيًا بل تابوتًا، أو جثمانًا على سرير مستشفى لا يعرف اسمه. يُدفن بتكريم بارد، وتبقى أسرته مع معاش لا يساوي ثمن قنينة غاز: 1000 درهم، أو أقل، كأن الحياة كانت صفقة خاسرة، وكأن التضحية كانت سوء تقدير.

طفله، الذي كبر دون أب، سيكمل الحياة بشهادة مدرسية معلّقة على حائط متهالك، ودموع أم تحمل لقب “الأرملة”، وتعيش كل شهر على حدود الجوع والكبرياء. سيقرأ عن الوطنية في المقررات، ويشاهد صور الشهداء في نشرات الأخبار، ثم يتساءل: أهذا هو الوطن الذي أخذه من أبي؟ أهذه هي التضحية التي يُكافأ عليها المرابطون بالتجاهل؟

نعم، هذا هو الوطن، حين يُترك الحُماة في العراء، ويُطلب من الورثة أن يكتفوا بالنشيد الوطني كل صباح. وحين يصبح الحنان إذنًا، والعودة إلى الأسرة امتيازًا يُشترى… عندها، لا بأس أن نسأل: من الذي خان من؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com