في بلد طالما تغنى بمحاربة الفساد ورفع شعار “الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة”، تفاجأ الرأي العام المغربي بما يمكن تسميته دون مجاز بـ”انقلاب ناعم” على دور المجتمع المدني، وذلك من خلال التعديلات المقترحة على المادتين 3 و7 من قانون المسطرة الجنائية. تعديلات تقول الحكومة إنها “تطوير تشريعي”، بينما تراها الجمعيات الحقوقية “عملية تجميل فاشلة لوجه قانوني مشوّه أساساً”.
المادة 3؟ تم تقليم أظافرها. المادة 7؟ خضعت لعملية قصّ ديمقراطي مؤلمة، بحيث لم يتبقَ منها سوى شبح القانون الذي يراعي المصلحة العامة. المضحك المبكي أن هذه التعديلات لا تستهدف فقط جمعيات “الضجيج الحقوقي”، كما يصفها بعض المسؤولين، بل تمسّ جوهر فكرة مشاركة المواطن في حماية المال العام. وكأن الحكومة تقول للمجتمع المدني: “تفضلوا، صفّقوا من بعيد، لكن لا تفتحوا أفواهكم كثيراً، فالسقف أصبح منخفضاً جداً”.
ووسط هذا “الضجيج المزعج” الذي أحدثته التعديلات، خرج محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، بتصريحات تحمل من السخرية ما يكفي لإضحاك الفساد نفسه، حين قال إن بعض المسؤولين “راكموا ثروات خيالية في ظروف ملتبسة”. وفي رواية أخرى، فإن بعض هؤلاء لم يعودوا يفرّقون بين حساباتهم البنكية وحسابات الدولة. لِمَ لا؟ فكلها “أرقام وطنية”!
ولأن التعديلات لا تأتي فرادى، فقد أصرّت الحكومة على إضفاء “طابع تربوي” عليها، فأصبح من الواجب على الجمعيات طلب “إذن خاص” من وزير العدل لتقديم شكاوى أو التنصيب كطرف مدني. خطوة اعتبرها ناشط حقوقي بمثابة “ترخيص للصمت”، خصوصاً إذا علمنا أن نفس الوزير قد يكون “صديقاً للمتهم” في بعض الأحيان.
ليس غريباً، إذن، أن يلوّح المجتمع المدني بتدويل الملف. فقد طفح الكيل، ولم يبقَ سوى رفع شكاوى للجهات الأممية التي قد تحتاج بدورها لمترجم يفك شفرة الإصلاحات المغربية، “محاربة الفساد عبر تقييد محاربيه!”
من جهته، أكد عبدالقادر اعمارة أن دور الجمعيات ضروري، بشرط ألا “تزعج” السلطات. وهذا التصريح وحده يستحق دخول موسوعة “غينيس للوقاحة التشريعية”، لأن الفساد – على ما يبدو – أصبح من “مقومات الاستقرار”، وكل من يحاول خلخلة هذا التوازن… متآمر خارجي أو ناشط غير وطني.
أما السعدية الولوس، عن الفيدرالية المغربية لحقوق الإنسان، فقد ألقت قنبلة من العيار الثقيل عندما قالت إن مشروع القانون الجديد يمنع الجمعيات من “الكلام”، وهي تهمة جديدة في سجل الجرائم التشريعية ، “التحدث عن الفساد دون إذن قضائي”. هنيئاً للغة الصمت، فقد صارت واجباً قانونياً!
السؤال الآن، ما الذي تُخفيه هذه التعديلات؟ هل هي مجرد “حسن نية بيروقراطية”؟ أم أنها رغبة في إغلاق كل النوافذ التي قد تُدخل رياح المحاسبة إلى غرف الفساد العفنة؟
المجتمع المدني، بكل فسيفسائه، يرفض أن يُحشر في الزاوية، ويرفض أن يُحوَّل إلى ديكور ديمقراطي بلا تأثير. والوقفة أمام البرلمان كانت رسالة واضحة: نحن هنا، وسنظل هنا، حتى ولو طُلب منا “تعبئة مطبوع رقم 36” لنُبلغ عن لصوص المال العام!
ختاماً، من الصعب ألا نسخر من هذه التعديلات، لأن الجدية في تناولها تقتضي أن نكون سذّجاً. فمن يحمي المال العام اليوم؟ من يسائل الفاسدين؟ ومن يحرس الخزينة من أيدي حفنة من “الموظفين الأثرياء بالصدفة”؟ الجواب قد تجده في بند صغير لم يُكتب بعد في القانون، “السكوت علامة رضا… لكن أيضاً علامة خطر”.
والأكيد أن الفساد يضحك الآن، ملء جيوبه.