في كل منعطف من منعطفات السياسة، هناك لحظة صمتٍ تشبه نهاية مسرحية. لحظة يتراجع فيها الممثلون إلى كواليسهم، وتُطفأ فيها الأضواء، وينتبه الجمهور إلى أن ما كان يُعرض أمامه ليس إلا تكرارًا سخيفًا لخطاب بلا جمهور.
هذا بالضبط ما حدث في كيتو، حين أعلنت الإكوادور، بكل هدوءٍ لاتيني، أنها لم تعد تؤمن بكذبة البوليساريو. وأن مغرب اليوم ليس مغرب الأمس. لم يكن الموقف مجرد ديبلوماسية، بل قرار استراتيجي ، الاعتراف بسيادة المغرب، ودعم مبادرته للحكم الذاتي، وفتح سفارة جديدة في الرباط.
الإكوادور، تلك الدولة الواقعة بين جبال الأنديز والمحيط الهادئ، قررت أخيرًا أن تتوقف عن تمويل الأوهام. لا عن عاطفةٍ، ولا عن ضغطٍ خارجي، بل لأن منطق الدولة انتصر على رومانسية الثوار.
في الرباط، لم تكن المفاجأة في التصريح، بل في توقيت القطيعة مع الخرافة. فالإكوادور، التي ظلت لسنوات تمسك العصا من الوسط، قررت فجأة أن لا وقت للّف والدوران، وأن لا جدوى من دعم مقاتلين بلا قضية، ومخيمات بلا مستقبل.
لقد سئمت أميركا اللاتينية من الحقائب الإيديولوجية القديمة، واكتشفت أن البوليساريو مجرد ماركة منتهية الصلاحية، لا تصلح إلا في نشرات أخبار قناة “تندوف الدولية”.
أتابع منذ سنوات كيف تتحول العواصم البعيدة إلى أوراق قريبة من دفتر السيادة المغربية. من سانتو دومينغو إلى ليما، ومن بوغوتا إلى كيتو، كلها محطات في مسار دبلوماسي مغربي ناضج: هادئ، رصين، لا يحتاج إلى صيحات ولا مؤتمرات شعبية بتمويل جزائري.
بصراحة، لم أعد أتعاطف مع من يصرّ على الحديث عن “شعوبٍ بلا دولة” في عالمٍ يبحث عن “دولٍ بلا مشاكل”. البوليساريو اليوم ليس سوى ذكرى عالقة في أرشيف الحرب الباردة، بلا خريطة، بلا تمثيلية حقيقية، وبلا أصدقاء جدد.
المغرب، في المقابل، يتحرك بثبات رجل يعرف طريقه، ويعرف ما لا يريد.
لقد تابعت بابتسامة ذلك المؤتمر الصحفي في الرباط، حين وقفت وزيرة خارجية الإكوادور، غابرييلا سومرفيلد، إلى جانب ناصر بوريطة، لتقول بوضوح: نحن معكم. لا بلغة الخشب، بل بلغة المشاريع الأمنية، والتعاون الاستخباراتي، واتفاقيات التجارة، وتبادل المعلومات حول الجريمة العابرة للحدود.
هكذا تُصنع الشراكات. لا بالشعارات، بل بالمصالح الذكية.
أكتب هذا من نافذة صغيرة في طنجة، حيث تهبّ نسائم الأطلسي على أرشيف الذكريات، وأفكر في صحفي شاب في الإكوادور، ربما لم يسمع بالبوليساريو قط، لكنه الآن يكتب عن المغرب، عن السفارة الجديدة، عن شراكة تنمو في صمت، بعيدًا عن ضجيج الضائعين في الرمال.