طمس الشعارات.. واستحضار الأشباح! حين تصبح كرة القدم تمرينًا في فنّ الإنكار السياسي

بوشعيب البازي

بينما كانت الكرة تدور في ملاعب المغرب بأقدام لاعبات أفريقيات، كانت الشاشات في الجزائر تدور في فلكها الخاص، لا ترى “المغرب”، لا تسمع “المغرب”، ولا تنطق اسمه. وكأننا أمام نسخة إعلامية من “لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم”، لكن بنسخة مطورة: “لا أُشاهد البلد المنظم، لا أذكره، وأقوم بحذفه رقميًا ثم أقول إنه لم يكن هناك أصلًا.”

نعم، لم يكن الأمر مجرد خطأ تقني عابر أو زلة مونتاج، بل بدا كأن الإعلام الجزائري الرسمي قرر خوض البطولة بطريقته الخاصة: مباراة فردية ضد اسم البلد المنظم، شعار البطولة، وحتى الخطوط الملكية المغربية… التي تحولت بلمسة ريموت كنترول إلى “توتال إنرجي”، في ما يبدو وكأنه استدعاء لمهارات الساحر هاري بوتر أكثر من مهارات فنية إعلامية.

وبينما كان المنتخب الجزائري للسيدات يسجل أهدافًا على أرض الملعب، كان الاتحاد الجزائري لكرة القدم يسجل أهدافًا عكسية في مرمى الاحتراف الإعلامي. فقد سُجّلت سابقة: لاعبات يغلفن شعار الجامعة الملكية المغربية بشريط أسود لاصق، لا لشيء، فقط لأن الجغرافيا أحرجت السياسة.

أما التلفزيون الجزائري، فأثبت أنه قادر على إخفاء “المغرب” من الوجود البصري، دون الحاجة إلى تعديل خرائط غوغل، فقط بقليل من الـPhotoshop وكثير من عقد التاريخ.

وسائل الإعلام المغربية لم تضيع الفرصة، وعلّقت بأن ما يحدث هو “عبث إعلامي”، وربما كانت لطيفة في وصفها، فالعبث يتطلب نية اللعب، بينما ما شهدناه أقرب إلى عملية جراحية لتجميل الحقيقة دون تخدير، خلف الشاشات.

لكن لنكن منصفين. الإعلام الجزائري لم يخطئ وحده. لقد التزم بمبادئ صارمة في الحياد: إذا ذُكر اسم “المغرب” نحذفه، وإذا ظهر شعاره نغطيه، وإذا تحدث لاعبونا عن البطولة، نزوّر الخلفية. كل ذلك تحت شعار “الرياضة للجميع… ما عدا البلد المستضيف”.

وعلى ذكر الشعار، نذكر تلك اللحظة الذهبية في تاريخ التغطية الإعلامية: مؤتمر صحافي لمدرب منتخب الجزائر للسيدات، حيث اختفى شعار “الخطوط الملكية المغربية” من الخلفية الإعلانية كأن لم يكن. ربما كان في استراحة إعلانية؟ أو ربما اكتشف أنه غير وطني كفاية ليتواجد أمام عدسات الكاميرا.

الاتحاد الأفريقي لكرة القدم “الكاف” – الذي ظننا أنه مشغول بالتسلل وضربات الجزاء – استيقظ هو الآخر على وقع هذا “الإنكار الجغرافي”، وفتح تحقيقًا رسميًا، بينما تتنفس المنصات الاجتماعية على وسم: #أين_المغرب؟ وكأن السؤال أصبح فلسفيًا أكثر منه رياضيًا.

وفي مقارنة باردة لكنها صارخة، قام الإعلام المغربي بتغطية فوز المنتخب الجزائري على بوتسوانا بكل مهنية، بينما اختار الإعلام الجزائري سياسة النعامة… مع فارق أن النعامة لا تمتلك استوديو أخبار وخدمة بث عالي الجودة.

أما المنتخب التونسي، فدخل البطولة من بابها الواسع، وأثبت أن بإمكان فريق عربي أن يلعب في المغرب، ويشكر المغرب، وينشر صورًا عن كرم المغرب… دون أن يفقد شرفه الوطني، أو يتعرض لتفكك في جهاز المناعة الإعلامي.

ومن لم يتعلم من أزمة “قميص الصحراء” في نصف نهائي كأس الكونفدرالية 2023، سيعيد تكرار الدرس في “ملحمة الشعارات المغطاة”، لعل وعسى أن ينجح في مادة الجغرافيا السياسية، ولو عبر كرة القدم.

اللاعبات، من جانبهن، قدمن أداءً رياضيًا مشرفًا يستحق الثناء، ويذكرنا بأن على العشب الأخضر لا مكان للتلاعب السياسي. أما خارج الميدان، فالحكاية تروي قصة أخرى: حيث تتحول بطولة رياضية إلى درس حي في إنكار الواقع، وتفصيل البث التلفزيوني على مقاس الإيديولوجيا.

ختامًا، لعلنا نعيد طرح السؤال الأبدي:
هل ستنجح كرة القدم يومًا في أن تكون كرة… لا قنبلة؟
وهل ستستطيع الرياضة أن تخلع عنها عباءة الخلافات وتلبس قميص الإنسانية؟
أم أن بعض الشاشات ما تزال تفضّل اللعب خارج التغطية؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com