البرتغال تدعم الحكم الذاتي: الدبلوماسية المغربية تُراكم الانتصارات بصمت وفعالية

بوشعيب البازي

لم تكن لشبونة يومًا عاصمة ضجيج دبلوماسي، لكنها هذه المرّة اختارت أن ترفع صوتها بما يكفي لتسمعه الأطراف المعنية بقضية الصحراء المغربية: المغرب على الطريق الصحيح، ومبادرة الحكم الذاتي تمثل القاعدة الأكثر جدية ومصداقية لحلّ هذا النزاع الإقليمي المعقد.

بهذا الموقف، تخرج البرتغال من منطقة الرماد الرمزي إلى وضوح دبلوماسي محسوب، يكرّس ما أصبح يُشبه الإجماع الأوروبي الجديد حول الصحراء، ويؤكد أن الدبلوماسية المغربية، بقيادة الملك محمد السادس، تُجيد بناء التحالفات من بوابة المصالح الاقتصادية والبراغماتية السياسية.

من التصريح إلى التموقع

لقاء وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة بنظيره البرتغالي باولو رانجيل لم يكن مناسبة لتبادل المجاملات، بل جاء تتويجًا لمسار متدرج من التقارب الاستراتيجي بين الرباط ولشبونة. ومن بين كل ما قيل في المؤتمر الصحافي، يظلّ الوصف البرتغالي للمبادرة المغربية بأنها “الأساس البنّاء والأكثر جدية” مفتاح الفهم العميق للتحول الحاصل في الموقف الأوروبي تجاه هذا الملف.

البرتغال لم تكن مضطرة لتغيير موقفها المتوازن، ولا أحد كان ينتظر منها إزعاج علاقاتها مع الجزائر، التي سبق لرئيسها أن زار لشبونة في محاولة لكسب ودّ صامت. ومع ذلك، اختارت البرتغال أن تُجاهر بموقفها الواضح لصالح الوحدة الترابية للمغرب، في لحظة تزداد فيها الخنادق وضوحًا داخل الساحة الدبلوماسية الدولية.

واقعية المبادرة في زمن الاصطفافات

المبادرة المغربية للحكم الذاتي، التي طرحت سنة 2007، أثبتت قدرتها على الصمود أمام المتغيرات، ليس فقط لأنها تقدم حلاً عمليًا يزاوج بين السيادة والخصوصية المحلية، بل لأنها جاءت في الوقت المناسب لتُقدِّم بديلًا واقعيًا في منطقة تتآكل فيها الدولة الوطنية بفعل الفوضى والإرهاب.

ولأن السياسات الخارجية تُبنى على إدراك التهديدات كما تُبنى على فرص الشراكة، فإن دعم البرتغال يُعبر عن وعي أوروبي متنامٍ بأن استقرار شمال أفريقيا يبدأ من دعم الحلول القابلة للتطبيق، وليس من الاستثمار في أوهام الانفصال والانقسام.

كرة القدم والدبلوماسية الناعمة

بعيدًا عن النصوص الرسمية، تبدو العلاقة المغربية البرتغالية مرشحة لتطور غير مسبوق، خاصة في ظل الاستعداد المشترك لتنظيم كأس العالم 2030 إلى جانب إسبانيا. وقد يكون هذا الحدث العالمي أكثر من مجرد تظاهرة رياضية، بل مناسبة لبناء تكتل أطلسي جديد يربط بين أوروبا الجنوبية وأفريقيا، بالاستفادة من الديناميات الجديدة في الأمن، الاقتصاد والطاقة.

وهو ما عبّر عنه بوريطة بوضوح عندما تحدث عن توظيف القرب الجغرافي والعمق التاريخي من أجل بلورة شراكة ذات مضمون نوعي، تتجاوز ما تم تحقيقه حتى الآن، في ظل رؤية ملكية تُحسن مزج الرمزي بالاستراتيجي.

رمزية البرتغال… ورسائل غير مباشرة

أن يصدر هذا الموقف من البرتغال تحديدًا ليس تفصيلاً عابرًا. فهي بلد يحتفظ بمكانة معنوية في الساحة الدولية، ليس فقط لأن أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش برتغالي، ولا لأن رئيس المجلس الأوروبي كذلك، بل لأن لشبونة تمثّل في المخيال الدبلوماسي الأوروبي بلد الاعتدال والانفتاح، وبالتالي فإن موقفها يمثل مرآة لما يفكر فيه عدد من العواصم دون أن تعلنه رسميًا.

المحلل السياسي محمد بودن ذهب في نفس الاتجاه، معتبرًا أن هذا الدعم يعزز الزخم المتنامي لصالح المقترح المغربي، ويؤشر على توسّع رقعة التأييد داخل الدوائر الأوروبية الفاعلة، خاصة وأن البرتغال مرشحة لعضوية مجلس الأمن سنة 2027، ما يجعل لموقفها الحالي وزنًا مستقبليًا في معادلة الأمم المتحدة.

قراءة في توقيت الدعم

يتزامن هذا الإعلان مع تصاعد التوترات الإقليمية، وازدياد الحاجة إلى شركاء موثوقين في الجنوب. الرباط، بسياساتها المتوازنة في الساحل والصحراء، أصبحت فاعلًا لا يمكن تجاوزه في معادلات الأمن الطاقي والهجرة ومكافحة الإرهاب. ولذا فإن دعم الحكم الذاتي لم يعد مجرد تضامن رمزي، بل رهان استراتيجي على شريك صاعد يملك رؤية، ويحظى بشرعية داخلية، ويتحرك بثبات في محيط مضطرب.

موقف البرتغال الأخير ليس سوى محطة جديدة في مسلسل الاعتراف المتنامي بمغربية الصحراء، لكنه يحمل نكهة خاصة: نكهة الشجاعة الدبلوماسية في وقت الحذر، ونكهة الاستشراف الاستراتيجي في زمن التقلبات. المغرب لم ينتصر بخطاب القوة، بل ببراغماتية العارف بما يريد، وصبر من لا يهوى الصراخ بل يفضّل تراكم المكاسب بهدوء.

#البرتغال #الصحراء_المغربية #بوشعيب_البازي #البوليساريو #الجزائر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com