عيد العرش في المغرب: من رمزية العهد إلى تَجذّر السيادة الترابية
بوشعيب البازي
في الثلاثين من يوليو 2025، تُخلّد المملكة المغربية الذكرى السادسة والعشرين لاعتلاء الملك محمد السادس العرش، مناسبة وطنية تتجاوز طابعها الاحتفالي الرمزي لتُغدو لحظة تأمل سياسي وتاريخي في مسار دولة استطاعت، خلال عقدين ونصف، أن تُعيد ترتيب أولوياتها التنموية والسيادية في محيط إقليمي معقد، وجيوسياسي متغير.
تتخذ هذه الذكرى هذا العام طابعا استثنائيا، ليس فقط لكونها تؤرخ لنصف قرن من “المسيرة الخضراء”، الحدث المفصلي الذي مكن المغرب من استعادة أقاليمه الصحراوية بطريقة سلمية بعد انسحاب إسبانيا الاستعماري، بل لأنها تأتي في سياق وطني ودولي يزكّي منسوب الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء، ويعكس في الآن ذاته صلابة النموذج المغربي في إدارة قضاياه الاستراتيجية بأدوات ناعمة وواقعية.
من المسيرة إلى المؤسسات: نحو هندسة سيادية جديدة
إن المسيرة الخضراء، التي انطلقت في السادس من نوفمبر 1975، لا تزال تمثل لحظة فارقة في الذاكرة السياسية المغربية. فهذه المبادرة التي قادها الملك الراحل الحسن الثاني، والتي حشد فيها أكثر من 350 ألف مواطن ومواطنة، لم تكن مجرد حدث تعبوي، بل تأسست على قراءة دقيقة لموازين القوى الإقليمية آنذاك، واستثمرت اللحظة الانتقالية في إسبانيا ما بعد فرانكو، وأرست مبدأ التدبير السلمي للنزاعات الترابية.
وقد استطاع الملك محمد السادس، طيلة السنوات الست والعشرين من عهده، أن يُحوِّل هذا الإرث الرمزي إلى مسار مؤسساتي ملموس، قوامه تأمين الأرض، واستدامة التنمية، وإعادة تأهيل الجهات الجنوبية اقتصاديا وبشريا، في وقت واصلت فيه الجزائر دعم كيان انفصالي لا يملك من مقومات الدولة غير الشعارات.
المبادرة المغربية للحكم الذاتي: أطروحة الواقع في مواجهة الوهم
إن مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب في 2007، والذي اعتبرته قوى دولية كبرى مثل الولايات المتحدة، وألمانيا، وإسبانيا، وفرنسا، والبرتغال، أساسا جديا وواقعيا لحل النزاع، يمثل نقلة دبلوماسية نوعية، لا في مضمونه فقط، بل في بنيته القانونية التي تحترم الخصوصيات الجهوية ضمن سيادة الدولة الوطنية.
لقد جاءت هذه المبادرة في وقت كانت فيه أطروحات تقرير المصير الكلاسيكية تفقد جاذبيتها أمام ما بات يُعرف بـ”الحلول الوسطية” القائمة على تقاسم السلطة في إطار الوحدة الوطنية. في هذا السياق، تندرج المبادرة المغربية كصيغة توافقية تسمح للساكنة الصحراوية بإدارة شؤونها المحلية في ظل وحدة الدولة وسلامة ترابها.
الهندسة التنموية للصحراء: من الجدار الأمني إلى العمق الأطلسي
لم يقتصر المغرب على الدفاع عن وحدته الترابية بالوسائل الدبلوماسية، بل تبنّى مقاربة متكاملة جمعت بين التحديث الأمني والبنية التحتية والتنمية الاجتماعية. فالجدار الأمني، الذي شكل حائط صد عسكريا ضد هجمات “البوليساريو” المدعومة جزائريا، تطوّر إلى جدار تنموي، تُترجم ملامحه اليوم في مشاريع ميناء الداخلة الأطلسي، ومنطقة التبادل الحر، والربط الطاقي، ومشاريع الطاقات المتجددة.
إن هذه المقاربة التنموية لم تُحدَّد من منطلق تَرف السيادة، بل من خلال وعيٍ إستراتيجي يرى في الجهات الجنوبية بوابة المغرب نحو العمق الإفريقي، وواجهة أطلسية ذات أبعاد اقتصادية وجيوسياسية في آن. في هذا الإطار، يصير المشروع المغربي لربط الغاز النيجيري عبر الأقاليم الصحراوية إلى أوروبا، أو مشروع الهيدروجين الأخضر، تجليات لتصور جيواستراتيجي يجعل من الصحراء منصة ربط قاري لا نزاع حدودي.
المغرب في 2025: التموقع الإقليمي والدولي الجديد
يمثل المغرب اليوم حالة متفردة في المنطقة المغاربية، من حيث قدرته على المزاوجة بين الاستقرار السياسي والانفتاح الاقتصادي، وبين الحضور القاري والارتباط الأوروبي. ويُعدّ اختياره شريكا لتنظيم مونديال 2030، إلى جانب إسبانيا والبرتغال، رمزا لهذه المكانة المركبة التي يجمع فيها بين ضفتين، ويفتح جسرا بين جنوب المتوسط وشماله.
كما أن العلاقات المغربية الإفريقية، التي أعاد الملك محمد السادس هندستها منذ العودة إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017، أسست لنموذج تعاون جنوب – جنوب، لا يقوم على الإحسان السياسي، بل على منطق تبادل المصالح: الفوسفات المغربي مقابل الأمن الغذائي الإفريقي، التكوين الديني مقابل الأمن الروحي، والشراكات الاقتصادية مقابل الاستقرار الإقليمي.
من شرعية التاريخ إلى شرعية الإنجاز
يبقى السؤال المفتوح في هذا المسار الممتد من “المسيرة الخضراء” إلى عيد العرش السادس والعشرين هو: ما الذي يجعل المغرب بلدا ناجحا في الدفاع عن وحدته، فيما سقطت مشاريع انفصالية مماثلة في التشظي والانقسام؟
الجواب ربما لا يكمن فقط في صلابة مؤسساته أو حكمة قيادته، بل في ذلك الرابط العضوي الذي يجمع الملكية بالمجتمع، والذي سمح بخلق حالة من “التوافق الاستراتيجي” حول القضايا المصيرية، خارج الاستقطاب السياسي والانتخابي. المغرب بلد لا يُزايد على قضاياه الوطنية، بل يُحصّنها بالبناء والتجديد والانفتاح.
وفي ظل هذا المسار، تظل الذكرى السادسة والعشرون لعيد العرش مناسبة لتثبيت الدرس التاريخي: في عالم سريع التحولات، تبقى الدول التي تستثمر في الشرعية التاريخية والمؤسساتية وتوظفها لبناء نموذج تنموي مستدام، هي الأقدر على الحفاظ على سيادتها… وعلى كسب احترام المجتمع الدولي.