في كل مرة يثار فيها الحديث عن منطقة الريف، تخرج بعض الأصوات المشروخة لتعيد إنتاج خطاب الاتهام والتخوين، وكأن أهل الريف يحملون مشروعًا خارجًا عن الوطن، أو كأنهم يُولدون وفي أعينهم نزعة تمرّد مزعومة. والحقيقة، التي يعلمها كل من زار المنطقة أو أنصت لتاريخها، أن الريف ليس أرض رفض بل أرض كرامة. ليس منبت فتنة، بل ساحة تضحيات.
الريف قدّم من خيرة رجاله من ناضلوا من أجل استقلال الوطن، واحتضن مقاومة شرسة ضد الاستعمار الإسباني والفرنسي، ولم يتردد أبناؤه في حمل السلاح إلى جانب كل المغاربة في الصحراء، دفاعًا عن وحدة البلاد. فكيف يتحوّل فجأة إلى “جيب مشبوه” أو “فضاء للاحتجاج المرضي” كما يصفه البعض بلا حياء أو مسؤولية؟
ما وقع في الحسيمة والناظور وغيرها من مدن الريف ليس سوى نتيجة حتمية لسنوات من التهميش والإقصاء، تراكمت حتى انفجر الصمت. لم يكن الحراك الذي شهده الريف دعوة للفتنة، ولا رفع علمًا غير العلم المغربي. بل كان صرخةً من أجل مستشفى، من أجل جامعة، من أجل كرامة. كانت مطالب اجتماعية واضحة، تبنّاها شباب لم يطلبوا سلطة، بل حياة عادلة.
وللأسف، بدل أن يُستقبل صوتهم بالإنصات والحوار، وُوجه بالاعتقالات والمحاكمات، وبموجة تخوين عبر بعض المنابر والإعلام الموجَّه. وكأن الدفاع عن المدرسة والمستشفى جريمة، وكأن من يطالب بالعدالة الاجتماعية خائن.
اليوم، الريف لا يحتاج إلى دروس في الوطنية، بل إلى تضامن وطني حقيقي. يحتاج أن يشعر بأن الوطن يحتضنه لا يراقبه. أن الدولة تُصغي إليه لا تُكمّمه. وأن المغاربة جميعًا يقفون إلى جانبه، لا يشيطنونه.
الريف ليس “مشكلة أمنية” كما تصوره بعض التقارير الباردة، بل منطقة لها إمكانيات هائلة وتاريخ ناصع ومواطنون فخورون بمغربيتهم. المطلوب اليوم هو إطلاق ورش مصالحة حقيقية، لا شعارات، وفتح أفق تنموي يُنهي سنوات الإقصاء، ويعيد للمنطقة ثقتها في المؤسسات، وفي المستقبل.
ولنتذكر جميعًا: لا أحد ينتزع نفسه من الوطن عن رغبة، لكن كثيرين يشعرون بالغربة داخله إذا تكرّس التهميش.
والريف، بكل بساطة، لا يطلب أكثر من الانصاف.