كعادتي كل صيف، أحجز تذكرتي إلى المغرب… أعود لا لأستجم فحسب، بل لأتجدد، لأغسل رأسي من تعب الغربة بروائح النعناع في الشاي، والكسكس يوم الجمعة، و”الله يعاون” في السوق. هذه المرة قررت أن أُجرِّب المدن كلها، من طنجة حتى مراكش، مرورًا بالدار البيضاء والرباط والقنيطرة وتطوان… ووقفت طويلًا عند مدينة واحدة استثنائية: شفشاون.
في شفشاون، لا تدهشك فقط البيوت الزرقاء المتراصة كأنها خرجت من لوحة فان غوغ، بل يُدهشك الناس. نعم، بشرٌ يبيعون دون أن يسرقوك، يُفاوضون دون أن يحتالوا، يبتسمون بصدق، ويخافون الله أكثر مما يخافون الشرطة السياحية. في شفشاون، اشتريت دون أن أتفحص الفاتورة عشر مرات، ولم أخرج من أي محل وأنا أشعر أنني تبرعت بأعضائي الداخلية دون علمي. ببساطة: مدينة تُباع فيها السلع… لا الضمائر.
ثم تأتي تطوان والقنيطرة، مدينتان بحضور خفيف على القلب، سكانهما لطيفون، والأزقة نظيفة، والهواء نقي كأنه مفلتر من عند الله مباشرة. لا ضجيج المفاوضات التجارية العدوانية، ولا ذاك التربص المريب خلف واجهات المتاجر. فقط مدينة تسير فيها دون أن تُقلّب محفظتك كل خمس دقائق لتتأكد أنك لم تُسلب نفسياً أو مادياً.
أما طنجة، فهذه قصة حب من طرف واحد. جميلة؟ نعم. بحر؟ حاضر. تراث؟ موجود. لكن… الشاطئ؟ تلوث مجاني. المقاهي؟ أسعار باريسية بنكهة النعناع المحلي. والمطاعم؟ استغلال بلا استئذان. طنجة للأسف أصبحت مدينة تهمس لك وأنت تمشي في الكورنيش: “هات ما في الجيب يأتك ما في الغيب… أو لا شيء أصلاً!”
ثم، مراكش… عاصمة السحر والجمال والنصب والاحتيال. مدينة تستقبلك بابتسامة، وتودّعك بأعراض تسمم غذائي. هناك، البائع لا يرى فيك سائحًا، بل ماكينة صرافة متحركة. تشتري قميصًا… فيُلفّ لك قميص آخر، تأكل طاجينًا… فتقضي ليلتك في قسم المستعجلات. الأسعار ترتفع كلما انخفض مستوى الأمان، ولا أحد يسأل: “هل أعجبك الطعام؟”، لأنهم يعرفون الجواب مسبقًا. كل شيء فيها يوحي بالجمال… حتى تتحدث إلى أحد.
وبين كل ذلك، تبرز الدار البيضاء كمدينة تقول لك بصراحة: “أنا لست سياحية، لكنني صادقة.”، لا أحد يعدك بالفردوس، ولكن على الأقل، لا أحد يسرقك وأنت تنظر إلى لوحة الأسعار. هناك تحس أنك تتعامل مع ناس عاديين، لا مهرّبين محترفين في هيئة نُدل ومُرشدين.
الخلاصة؟ المغرب بلد رائع، تنوعه الجغرافي يبهر، وتاريخه يُدرّس. لكن المدن تختلف، لا في جمالها، بل في أخلاق تجّارها. وفي الوقت الذي نُطالب فيه بجودة الطرق والفنادق، علينا أن نُطالب بجودة الضمير أيضًا.
ولمن يسألني: “بأي مدينة تنصحنا؟”، أقول له بكل يقين: زر شفشاون… هناك فقط، ستشتري زربية ولا تشتري معها خيبة أمل.