في 21 غشت الماضي، دوّنت النائبة الأوروبية ذات الأصول الفلسطينية، ريما حسن، على حسابها في «إنستغرام» جملة قصيرة لكنها مدوية: « يجب فعلا التوقف عن مقارنة فلسطين بقضية الصحراء ». لم تكن العبارة مجرد رأي عابر في سياق جدل سياسي، بل شكلت حدثاً مفصلياً قلب المعادلة رأساً على عقب. فمنذ عقود، ظلت الجزائر تستثمر في الربط الرمزي بين القضيتين، باعتباره إحدى ركائز خطابها الدبلوماسي. وجاء تصريح حسن ليقوّض هذا البناء الأسطوري بعبارة واحدة.
من الاحتضان إلى التنكّر: تحوّل جزائري سريع
قبل أسابيع فقط، كانت ريما حسن تمثل النموذج الأمثل لـ”المناضلة الصاعدة” في عين النظام الجزائري. فور انتخابها نائبة في البرلمان الأوروبي في يوليوز 2024، اختارت الجزائر كوجهة لأول زيارة رسمية، رافعة شعار «مكة الثوار والحرية»، في استعادة رومانسية لخطاب الستينيات. بيد أن هذه العلاقة، التي بدت آنذاك متينة، لم تحتج سوى إلى جملة واحدة حول الصحراء المغربية، لتتحول إلى حالة عداء علني.
هذا الانقلاب السريع يكشف طبيعة الارتباط القائم بين الجزائر و”حلفائها” في الخارج: ارتباط ظرفي قائم على الولاء المطلق للسردية الرسمية، وليس على قناعة فكرية أو مشروع سياسي مشترك. وبمجرد أن عبّرت حسن عن موقف مستقل، تحولت من “رمز” إلى “خائنة” في عين الإعلام الرسمي وأذرع التواصل الاجتماعي المرتبطة بالسلطة.
انهيار “المعادلة الرمزية”
على امتداد نصف قرن، اجتهدت الدبلوماسية الجزائرية في تسويق أطروحة مزدوجة: أن الدفاع عن “الجمهورية الصحراوية” الوهمية جزء لا يتجزأ من الدفاع عن فلسطين، وأن القضيتين تنتميان إلى جبهة واحدة ضد “الاستعمار”. هذا الربط، الذي وجد صداه في بعض الأوساط اليسارية بأوروبا، لم يكن يعكس واقعاً موضوعياً بقدر ما كان أداة لتبرير سياسة الجزائر الخارجية وتعزيز شرعيتها الثورية.
تصريحات ريما حسن جاءت لتنسف هذه المعادلة الرمزية. فإذا كان صوت فلسطيني، وازن ومؤثر في الساحة الأوروبية، يجاهر بأن القضيتين منفصلتان ولا رابط بينهما، فإن الخطاب الجزائري يجد نفسه أمام تحدٍ وجودي: كيف يمكن الاستمرار في تسويق رواية لم تعد تقنع حتى من يفترض أنهم “الشركاء الطبيعيون” فيها؟
من الرأسمال الرمزي إلى الإفلاس السياسي
في التحليل الأكاديمي، يُعدّ الخطاب السياسي رأس مال رمزياً تستثمر فيه الدول لتثبيت شرعيتها وتوسيع تحالفاتها. غير أن رأس المال الرمزي لا يدوم إذا فقد مصداقيته. وما حدث مع ريما حسن يمثل مثالاً صارخاً على هذا التآكل: فقد انكشف ضعف الرواية الجزائرية بمجرد أن اصطدمت باستقلالية فاعل سياسي لم يقبل أن يُستعمل كأداة في معركة لا تخصه.
إن الأزمة ليست في تصريح حسن وحده، بل في دلالاته الأعمق: إن كانت الجزائر قد فشلت في الحفاظ على صورة متماسكة حتى لدى الأصوات الأقرب إليها، فإن قدرتها على إقناع الرأي العام الأوروبي أو استقطاب نخب جديدة باتت موضع شك.
لحظة سقوط الأسطورة
جملة واحدة كانت كافية لإحداث “زلزال سياسي” في الجزائر. لم يكن الأمر يتعلق بشخص ريما حسن بقدر ما كان يعكس هشاشة سردية بنيت لعقود على مقارنات مصطنعة. وإذا كان التشكيك في هذه السردية قد انطلق من صوت فلسطيني، فإن ذلك يضاعف من رمزيته. فالقضية التي حاولت الجزائر أن تستعملها كمرآة لأطروحتها الانفصالية، عادت اليوم لتكشف حدود الخطاب الرسمي وتضعه أمام امتحان عسير: ماذا بعد سقوط الأسطورة؟