البوليساريو في “الهزيع الأخير” من عمرها السياسي

بوشعيب البازي

لم تعد جبهة البوليساريو تملك ترف الزمن ولا هامش المناورة الذي اعتادت عليه لعقود. فبعد نصف قرن من الرعاية الجزائرية، ومحاولات متكررة لفصل الصحراء عن المغرب، تجد نفسها اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاندثار التدريجي بوصفها جماعة انفصالية خارج السياق التاريخي، أو التحوّل إلى حزب سياسي يندمج ضمن المسار الديمقراطي المغربي في إطار الحكم الذاتي. إنها لحظة عبور عسيرة، قد تكون قصيرة وسلسة أو طويلة ومؤلمة، لكن المؤكد أن ساعة الحسم قد دقّت.

الجزائر: الراعي وصانع القرار

بما أنّ الجزائر هي الحاضنة السياسية والعسكرية للجبهة منذ سبعينيات القرن الماضي، فإنها تظل الطرف الذي سيحدد شكل هذا العبور: أهو انسحاب هادئ يحفظ ماء الوجه للجميع، أم تفكك صاخب يخلّف كلفة أمنية واجتماعية على المنطقة. لكن، حتى مع إصرار بعض دوائر القرار في الجزائر على إطالة أمد الأزمة، المجتمع الدولي حسم موقفه ، لم يعد هناك مكان لكيان انفصالي وهمي، والعمر الافتراضي للبوليساريو انتهى بالفعل.

الشرعية الدولية نحو الحكم الذاتي

ما يزيد عن 130 دولة أيدت مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب قبل قرابة عقدين، وعدد المؤيدين في ازدياد، حتى من داخل الحلقة الضيقة التي كانت تصطف مع البوليساريو مثل جنوب أفريقيا وبوليفيا. الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أكد في تقريره الأخير أن الحل لا يمكن أن يكون سوى سياسياً، وأسقط نهائياً من القاموس الأممي كلمة “الاستفتاء”.

الولايات المتحدة، بصفتها “حاملة القلم” داخل مجلس الأمن في ملف الصحراء، تبدي اندفاعاً واضحاً لتفعيل المقترح المغربي، بل إنها تدفع نحو إحداث آلية جديدة بديلة للـمينورسو تحت مسمى “مانساسو”، تكون مهمتها مواكبة تنزيل الحكم الذاتي بدل انتظار استفتاء أثبتت التجربة استحالته.

تحولات في موازين القوى

من اللافت أن القوى الكبرى جميعها، من واشنطن إلى بكين مروراً بموسكو والاتحاد الأوروبي واليابان، لم تعترف يوماً بـ”الجمهورية الصحراوية” المعلنة من طرف واحد. والسبب بسيط ، لا يمكن للنظام الدولي أن يتحمل كياناً هجيناً يفتقد لمقومات الدولة ويغذي التوتر في منطقة إستراتيجية غنية بالموارد ومفتوحة على أخطار الإرهاب والهجرة غير النظامية.

حتى فرنسا، التي طالما حاولت التوازن بين الجزائر والمغرب، باتت تواجه تضييقاً في هامش المناورة بفعل تصلب الخطاب الجزائري. أما الجزائر نفسها، فقد استوعبت – ولو على مضض – أن واشنطن وضعت ثقلها إلى جانب المقترح المغربي، وأن التراجع عنه لم يعد وارداً.

خيار بلا رجعة

المسار الأممي الجديد لا يعني أن النزاع سيُطوى بين ليلة وضحاها، لكنه يعني ببساطة أن عجلة الحل قد دارت ولن تتوقف. الجزائر أمام اختبار تاريخي، إما أن ترافق التحول وتستثمر فيه لبناء تعاون إقليمي مع المغرب ينعكس إيجاباً على شمال أفريقيا وجنوب المتوسط، أو أن تصرّ على العناد بما يضعها في عزلة أوسع.

أما البوليساريو، فهي أمام مفترق طرق ، أن تستمر في مطاردة وهم الدولة المزعومة حتى آخر رمق، أو أن تعود إلى أصل نشأتها كحركة سياسية يمكنها أن تنخرط في الدينامية الديمقراطية للحكم الذاتي داخل السيادة المغربية. وفي كلتا الحالتين، الزمن لم يعد في صالحها.

لقد تحوّل مقترح الحكم الذاتي من مبادرة مغربية إلى مطلب دولي مُلح، يحظى بشرعية أممية ودعم من القوى الكبرى. وهو وحده الكفيل بطيّ صفحة نزاع أنهك المنطقة نصف قرن. وبذلك، فإن “الهزيع الأخير” للبوليساريو ليس مجرد توصيف سياسي، بل هو إعلان تاريخي عن نهاية مرحلة وبداية أخرى، عنوانها الواقعية والسلام.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com