يشهد العالم سباقًا محمومًا من التحالفات الجيوستراتيجية بوثيرة قوية ومتسارعة، وسط كم هائل من الصراعات والحروب والأزمات في كل مكان، وهي نتاج تراكمات عقدين أو أكثر من أحداث سياسية وأزمات مالية واقتصادية. لقد أصبح العالم في مأزق حقيقي يتقاذفه صراع المصالح وتضارب المفاهيم الاستراتيجية كالهوية الوطنية والتعاون الدولي، مما يهدد ركائز النظام العالمي ويسرّع من وتيرة تحوّلاته.
في الوقت الذي تعيش فيه بعض دول الاتحاد الأوروبي أزمات مالية واقتصادية تهدد بارتدادات اجتماعية وسياسية، شهدت فرنسا لحظة فارقة بسقوط حكومة رئيس الوزراء فرانسوا بايرو في الجمعية الوطنية الفرنسية يوم 8 شتنبر 2025، بعدما فشل في نيل الثقة لتمرير ميزانية 2026 وسط جدل واسع حول بلوغ الدين العمومي 3345 مليار يورو سنة 2024، وارتفاع نسبة عجز الميزانية إلى 5.8%، متجاوزة السقف الأوروبي المحدد في 3%، في مشهد يعيد إلى الأذهان سيناريو أزمة اليونان سنة 2012. الوضع لم يكن مختلفًا في بريطانيا حيث ارتفع الدين العمومي إلى أكثر من 2537 مليار جنيه إسترليني، مما وضع حكومة “سترامر” في مرمى نيران المعارضة والصحافة، التي شبّهت الوضع بأزمة 1976 حين اضطر جيمس كالاغان للاقتراض من صندوق النقد الدولي. أما إيطاليا فدينها تجاوز 3070 مليار يورو، فيما انتقد المستشار الألماني فريدريك ميرتز نظام الرعاية الاجتماعية واعتبره عبئًا ماليًا لا يمكن تحمّله. وعلى نفس الوتيرة، صرّح رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان في كلمة بمدينة كوتشيي أن الاتحاد الأوروبي دخل مرحلة الانهيار، منتقدًا عجزه عن إيجاد حلول ناجعة للأزمات المالية وتنامي التيارات اليمينية التي تهدد وحدة البيت الأوروبي.
لقد ساهمت تراكمات أزمة 2008، وجائحة كوفيد 19، وحرب أوكرانيا، وحروب الطاقة والأنابيب، وارتفاع أسعار الكهرباء، والزيادة في ميزانيات التسلح إلى 3% من الناتج الداخلي الخام، فضلًا عن الحرب التجارية الأمريكية ضد صادرات الاتحاد الأوروبي، في مفاقمة الضغوط على اقتصادات دول كبرى مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، وهي دول تشكل العمود الفقري لمجموعة G7. هذه الدول اليوم أمام خيارات صعبة: إما تقليص الإنفاق الاجتماعي وتقويض دولة الرفاه، أو رفع الضرائب على الشركات والأثرياء بما يهدد الاستقرار الداخلي.
في المقابل، برزت تحركات استراتيجية كبرى من روسيا والصين ودول البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون. فقد عقدت المنظمة اجتماعها الخامس والعشرين في جنوب الصين يوم 1 شتنبر 2025 بحضور قادة الصين وروسيا والهند وبيلاروسيا ودول “ستان” الأربع وباكستان، إلى جانب إيران وتركيا و26 رئيس دولة وممثلين عن منظمات دولية، بينهم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. هذه المنظمة تمثل 40% من سكان العالم وسوقًا ضخمًا للإنتاج والاستهلاك وموارد الطاقة، إضافة إلى كون روسيا والصين قوتين نوويتين وعضوين دائمين في مجلس الأمن. الاجتماع تزامن مع الاستعراض العسكري الصيني الضخم، حيث ألقى الرئيس الصيني شي جين بينغ كلمة دعا فيها صراحة إلى إرساء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يقوم على العدالة والتعاون، في مواجهة ما وصفه بـ”الهيمنة القديمة”. كما تميزت القمة بلقاء ثنائي مطول بين بوتين وشي حول حرب أوكرانيا، إضافة إلى محادثات بين بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي حول العلاقات الاستراتيجية بعد رفع واشنطن التعرفة الجمركية إلى 50% على الصادرات الهندية.
أمام هذه التحولات، يصبح من الضروري على دول الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية والاتحاد المغاربي، وخاصة ضمن المبادرة الأطلسية، العمل على بناء شراكات متكاملة تعزز مواقعها التفاوضية وتؤسس لعلاقات رابح/رابح. وهنا نستحضر ما جاء في الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى أشغال الدورة 82 لمعهد القانون الدولي المنعقد بالرباط (24 غشت 2025): “لكننا ندرك أيضًا أنه لا يمكن تحقيق أي تقدم كبير في ظل الانعزال. فالديناميات الدولية ليست مجرد توازنات بين الدول، بل تستند على قيم ومبادئ توافقية، وتقوم على مؤسسات قادرة على تنظيم التعاون وضمان استدامة هذه المبادئ”.
لا زال العالم يعيش مخاضًا عسيرًا لميلاد نظام عالمي جديد، لكن المخاوف الكبرى تبقى أن تكون السياسات الاجتماعية ورفاه الشعوب واستقرار المجتمعات هي الثمن الذي يُدفع في هذا الصراع، في ظل صعود الفكر العنصري والمد اليميني المتطرف.