غادر كأيّ “حرّاق”، لكن وفي حقيبته أسرار دولة بأكملها. عبد القادر حداد، المعروف بلقب “ناصر الجن”، الرئيس السابق لجهاز المخابرات الداخلية (DGSI)، وجّه إلى النظام الجزائري واحدة من أكبر صفعاته منذ عقود. هروبه نحو إسبانيا ليس مجرد عملية فرار مثيرة، بل مرآة كاشفة لنظام مأزوم، ينهشه الصراع بين الأجنحة وتلتهمه الشكوك، عاجز عن السيطرة حتى على الوحوش التي صنعها بنفسه.
رجل بألف سر
ناصر الجن لم يكن عسكرياً عادياً. فقد تولّى قيادة جهاز الأمن الداخلي إلى حدود 2024، وكان يُنظر إليه كأحد أكثر الجنرالات نفوذاً ورهبة. عيّنه عبد المجيد تبون ليُحكم قبضته على المنظومة، لكن سرعان ما أُقيل ثم وُضع رهن الإقامة الجبرية، في سيناريو مألوف داخل الجزائر: صعود صاروخي يعقبه سقوط مدوٍّ.
وبمجرّد فراره، أطلق الرجل اتهاماً خطيراً: “كنت على وشك التصفية، وكانوا سيحوّلون موتي إلى انتحار”. هذه الكلمات وحدها كافية لهز صورة تبون ورئيس أركانه السعيد شنقريحة، لأن الرجل ليس مجرد منشقّ، بل خزان أسرار يعرف خبايا السلطة العسكرية والسياسية.
الجزائر في حالة حصار
ردّ فعل السلطة كان أشبه بمسرحية رعب: حواجز في كل مكان، مروحيات تجوب سماء العاصمة، مداهمات واسعة… مشهد يعيد ذاكرة “العشرية السوداء”. لكن، بعد هذا الاستنفار، لا خبر عن اعتقال ولا بيان رسمي. الصمت المدوّي كان أقوى من أي إعلان. وفي بلد اعتاد تضخيم أي عملية أمنية بسيطة لتلميع صورته، فإن غياب الصور والبلاغات كان اعترافاً واضحاً بالهزيمة.
الصندوق الأسود للنظام
ما يجعل القضية أكثر خطورة أن “الجن” يُعدّ بمثابة الصندوق الأسود للسلطة الجزائرية، إذ يحمل ملفات حساسة تشمل:
- الدعم العسكري والسياسي لجبهة البوليساريو، واستعمالها كورقة ضد المغرب،
- العلاقات السرية مع إيران وحزب الله، بما في ذلك تزويد الانفصاليين بطائرات مسيّرة وتدريبات عسكرية،
- شبكات النفوذ في منطقة الساحل، حيث تختلط مكافحة الإرهاب بالتهريب وبناء ولاءات مسلحة،
- ملفات الفساد والصفقات السوداء داخل الرئاسة والجيش.
وإذا ما كشف هذه الملفات، فإن بنيان النظام الجزائري برمّته قد ينهار، ومعه كل خطاباته الدبلوماسية التي يسوّقها للخارج.
رأي وتحليل – بوشعيب البازي
قضية ناصر الجن تكشف آلية مألوفة في النظام الجزائري: الجنرالات يُرفعون بسرعة، ثم يُقصَون بسرعة أكبر، وكأن السلطة في الجزائر قائمة على دورة قاسية من الولاء ثم الإلغاء. إن هروب هذا الرجل لا يفضح فقط ثغرة أمنية خطيرة، بل يعرّي طبيعة النظام ذاته: سلطة تقوم على الخوف، حيث يتحوّل حُماتها إلى خصومها، والوفاء لا يحمي أصحابه من السقوط.
الأخطر أن هذا الهروب أسقط ورقة التوت الأخيرة: سلطة فقدت هيبتها حتى داخل أجهزتها الأمنية. لم يعد الخطر خارج الحدود، بل في قلب النظام نفسه، في رجاله الذين يعرفون أكثر مما ينبغي.
بكلمات أوضح: لم يعد السؤال متى ينكشف النظام الجزائري، بل متى ينهار.