انزلاق دبلوماسي جديد: عندما يحوّل سفير الجزائر في بيروت ندوة ثقافية إلى منبر للشتائم

حنان الفاتحي

في الدبلوماسية، للكلمات وزنها: منها ما يُبنى به الجسور ومنها ما يفتح الآفاق. غير أنّ ما صدر عن السفير الجزائري في بيروت، كمال بوشامة، يوم 23 شتنبر 2025، جاء على النقيض تمامًا. فقد حول ندوة ثقافية تحت عنوان «لبنان والجزائر، تاريخ مشرق وحاضر مضيء» إلى ما يشبه عرضًا كوميديًا غير محسوب العواقب، انتهى بتعريض صورة بلاده إلى السخرية والإحراج على الساحة الدولية.

أمام جمهور كان ينتظر خطابًا حول الروابط التاريخية والثقافية، أطلق بوشامة وابلًا من العبارات الشعبوية والمغالطات التاريخية، بلغت حد الادعاء بأن الجزائر قدمت 20 مليون شهيد في حرب الاستقلال. لكن الذروة جاءت مع هجومه الشخصي على الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي وصفه بـ«الأحمق» و«المجنون» و«الكاوبوي الذي يستحق دخول مستشفى للأمراض العقلية». تصريحات لا تصدر عادة عن رجل دبلوماسية، بل عن شخص فقد السيطرة على كلماته.

لبنان في موقف محرج… وواشنطن تترقب

الحدث الذي كان يفترض أن يكرّس روابط «مضيئة» بين الجزائر ولبنان، تحول إلى مصدر إحراج للدولة المضيفة، التي وجدت نفسها مجبرة على استيعاب خطبة لا تليق بأعراف العمل الدبلوماسي. أما على الضفة الأخرى من الأطلسي، فالمسألة قد تأخذ أبعادًا أكثر خطورة: هل ستتجاهل واشنطن هذه الإهانة الصريحة لرئيسها السابق؟

الجزائر تراهن، كما يبدو، على عامل النسيان. لكن الدبلوماسية الأمريكية، المعروفة ببراغماتيتها، قد لا تدع مثل هذا الانزلاق يمر مرور الكرام، خصوصًا وأن مصالحها في شمال إفريقيا تتجاوز بكثير الشعارات والارتجال السياسي.

مسؤولية الدولة لا تقل عن مسؤولية الدبلوماسي

كما يؤكد خبراء العلاقات الدولية، فإن السفير يمثل بلاده رسميًا، وكل تصريح علني يصدر عنه يُحتسب على الدولة التي أوفدته. غياب أي رد فعل رسمي من الجزائر — سواء عبر اعتذار أو استدعاء للدبلوماسي — قد يُقرأ كقبول ضمني أو على الأقل تساهل مع تصريحاته. وهنا تكمن الخطورة: تتحول زلة فردية إلى خطأ استراتيجي يلزم الدولة بأكملها.

دبلوماسية على شاكلة النظام

كمال بوشامة ليس حديث العهد بالمناصب ، فهو وزير سابق ودبلوماسي مخضرم ومؤلف غزير الإنتاج. أي أنه يعرف تمامًا وزن الكلمات في العلاقات الدولية. لكن المثال يأتي من الأعلى. ففي نظام سياسي حيث الشعبوية تحل محل الرصانة، وحيث الارتجال يصبح «منهجًا»، ليست مفاجأة أن ينحدر الخطاب الدبلوماسي إلى مستوى المقاهي بدل قاعات المؤتمرات.

إنه الوجه الآخر لما يمكن تسميته بـ«مدرسة تبون» في السياسة الخارجية ، خطاب مرتجل، لغة هجومية، افتقار إلى البعد الإستراتيجي، ثم تراجع مرتبك كلما اصطدمت الشعارات بالواقع الدولي.

من الشتائم إلى شراء الاعتذارات

في النهاية، تبقى النتيجة واحدة ، صورة دبلوماسية جزائرية في الحضيض، تتأرجح بين التعالي المفرط والغضب غير المحسوب، قبل أن تلجأ إلى محاولات يائسة لـ«ترميم السمعة» عبر وسائل الإعلام. ومن غير المستبعد أن يُكلّف سفير الجزائر في واشنطن، صبري بوقادوم، مرة أخرى بمهمة «شراء مقابلة» لدى وسيلة إعلام أمريكية صديقة، لتلميع صورة دبلوماسية فقدت بريقها.

الحادثة ليست مجرد «هفوة» عابرة، بل مؤشر على أزمة عميقة في العقل الدبلوماسي الجزائري، حيث تحل الشتائم محل الحجج، والارتجال محل الإستراتيجية. بينما تسعى دول العالم إلى تعزيز صورتها عبر القوة الناعمة والبراغماتية، تبدو الجزائر ماضية في طريق يعزلها أكثر فأكثر عن شركائها، ويجعلها مادة للسخرية بدل أن تكون طرفًا فاعلًا في صناعة التوازنات الدولية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com