في قلب بروكسيل، ومدينة أنفيرس، تقف بنايات ضخمة كانت يوماً ما رموزاً للحضور الدبلوماسي المغربي، قبل أن تتحول إلى أطلال مهجورة منذ أكثر من عقد. فمنذ سنة 2011 أُغلقت القنصلية المغربية السابقة بالعاصمة الأوروبية ، تاركة وراءها أسئلة عالقة عن جدوى اقتناء مبانٍ تُقدّر قيمتها بملايين اليوروهات لتظل عرضة للتآكل والزمن.
الجالية المغربية، التي تُعد من أكبر الجاليات المقيمة في بلجيكا، تتساءل اليوم، كيف يُعقل أن يُترك عقار استراتيجي في واحدة من أهم العواصم الأوروبية يملؤه الغبار والجدران المتصدعة والحشرات، بدلاً من أن يُستثمر في مشاريع ثقافية أو اجتماعية تعود بالنفع على المغاربة المقيمين هناك؟
غياب الرؤية في تدبير الممتلكات العمومية
القضية تكشف خللاً عميقاً في تدبير أملاك الدولة بالخارج. فبينما تنشغل دول أخرى بتحويل بناياتها القنصلية القديمة إلى مراكز ثقافية أو فضاءات للتبادل الحضاري، يظل المغرب، في هذا الملف على الأقل، متردداً أو عاجزاً عن اتخاذ قرار واضح ، هل يبيع المبنى؟ هل يحوله إلى مركز يخدم الجالية؟ أم يتركه فريسة للإهمال؟
غياب الإجابة يعكس، في نظر كثيرين، استهتاراً بمصالح الجالية، التي كثيراً ما تُرفع شعارات الاهتمام بها، لكن على أرض الواقع تُترجم هذه الشعارات بقرارات بيروقراطية بطيئة أو صمت رسمي يثير الاستفهام.
أموال الشعب في مهب الريح
لا يتعلق الأمر فقط ببناية من الإسمنت والحجر، بل بأموال عامة استُثمرت في زمن ما، كان من الممكن أن تتحول اليوم إلى رافعة لصورة المغرب في الخارج. فالمبنى، بقيمته المادية والمعنوية، يمثل جزءاً من الرصيد الوطني، وإهماله يعني ببساطة هدر المال العام.
هنا، يبرز سؤال ملحّ، من يتحمل المسؤولية؟ هل وزارة الخارجية التي لم تحسم في مصير هذه البنايات؟ أم وزارة المالية التي تتعامل معها كأرقام جامدة في دفاتر الحسابات؟ أم أن المسؤولية مشتركة بين مؤسسات تترك الملفات عالقة بلا حسم؟
من يحرك الملف؟
وسط هذا الغياب الصارخ للرؤية، تبرز الحاجة إلى نقاش جدي داخل البرلمان، وإلى تحرك من قبل المجتمع المدني والجالية المغربية نفسها للضغط على السلطات المعنية. فالمباني المهجورة ليست فقط هياكل خرسانية، بل هي انعكاس لسياسات عمومية عاجزة عن استثمار ما تملك.
إن استمرار هذا الوضع لا يعني فقط هدر موارد مالية، بل يرسل أيضاً رسالة سلبية للجالية، أن مصالحها وحقوقها في ذيل الأولويات. فكيف يمكن أن نطالب مغاربة العالم بالارتباط بوطنهم الأم، في حين تُترك ممتلكات الشعب في الخارج تتآكل أمام أعينهم بلا جدوى؟
الملف لم يعد يحتمل التأجيل. المطلوب اليوم إرادة سياسية حقيقية لحسم مصير هذه البنايات ، بيعها، استثمارها، أو تحويلها إلى مراكز تخدم صورة المغرب وجاليته. أما أن تظل مجرد أطلال صامتة في قلب أوروبا، فذلك هو الاستهتار بعينه.