في نهاية الأسبوع الماضي، خرج آلاف الشباب المغربي إلى الشارع في مشهد غير مألوف من حيث التنظيم والوضوح والوعي. لم تكن هذه التظاهرات مجرد تعبير عن غضب عابر أو استجابة لحظة ظرفية، بل بدت أقرب إلى تحول نوعي في المشهد الاجتماعي والسياسي المغربي، تقوده فئة عمرية لطالما وُصفت بالعزوف أو الانشغال بالافتراضي.
“جيل زد 212″ – نسبة إلى الجيل الرقمي الجديد، و”212” كرمز هاتفي للمغرب – قدّم نفسه كفاعل مدني وسياسي مسؤول، حاملاً مطالب واضحة ومركزة: الصحة، التعليم، الشغل، العدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد. لا شعارات فضفاضة، ولا خطاب إيديولوجي، ولا مطالب عبثية. بل خطاب مباشر يستند إلى واقع يومي يعيشه المغاربة، خاصة فئاتهم الهشة.
وعي سياسي واجتماعي غير مسبوق
اللافت في هذا الحراك ليس فقط المطالب، بل الطريقة التي تمت بها صياغتها والدفاع عنها. لقد ربط شباب “جيل زد 212” بين اختلالات قطاعات حيوية وبين الشعور المتزايد بالتهميش الاجتماعي والاقتصادي. ففي نظر هذا الجيل، غياب الأمن الصحي ناتج عن تدهور الخدمات في المستشفيات العمومية، كما أن البطالة مرتبطة بشكل مباشر بتراجع جودة التعليم العمومي، وغياب التكوين الملائم، وانعدام عدالة الفرص.
هذا الجيل لا يكتفي بالتشخيص، بل يدرك العلاقة بين الاختلالات القطاعية وبنية النظام التنموي، ويطرح الأسئلة الحقيقية: كيف يمكن لدولة تراهن على تنظيم كأس العالم أن تفشل في تأهيل مدرسة أو تجهيز مستشفى؟ كيف يمكن تحقيق التنمية بدون عدالة في توزيع الثروة؟ ومن يستفيد فعلًا من الثمار الاقتصادية؟
لا للعنف… نعم للحوار
ورغم بعض الانزلاقات المعزولة التي شابت بعض التحركات – من تخريب أو مواجهات هامشية – إلا أن المجموعة المنظمة للحراك كانت حازمة في إعلان رفضها للعنف والتخريب، ومؤكدة أن احتجاجها مدني وسلمي ومؤطر بالقانون. هذا التمايز الصارم بين الفعل الاحتجاجي المشروع وأي مظاهر عبثية أو مدفوعة بأجندات مشبوهة، يعكس نضجًا سياسيًا لافتًا، وحرصًا على الحفاظ على المصداقية والشرعية الشعبية للحراك.
بين المغرب بسرعتين… ومطلب العدالة الاجتماعية
الاحتجاجات أعادت إلى الواجهة خطاب العاهل المغربي الملك محمد السادس حين تحدث عن “المغرب بسرعتين”؛ مغرب يستفيد من التنمية، ومغرب ثانٍ لا يزال تحت خط الانتظار. وهذه المفارقة هي ما عبّر عنها “جيل زد 212” بشكل عملي، مؤكدًا أن أي نموذج تنموي غير عادل، مهما بلغت إنجازاته، لن يصمد أمام أسئلة الكرامة الاجتماعية.
فالاستثمار في البنية التحتية، ومشاريع النقل، والتحضير للبطولات الدولية، خطوات محمودة، لكنها يجب أن تسير بالتوازي مع تحسين الخدمات الأساسية التي تهم المواطن في حياته اليومية. المدرسة والمستشفى والإدارة المحلية يجب أن تصبح هي أيضًا “مشاريع وطنية كبرى”.
الفرصة السياسية أمام الدولة
ما كشفته هذه الاحتجاجات هو أن المغرب يمتلك جيلًا واعيًا، رقميًا، لكنه متجذر في القضايا الاجتماعية. جيل لا يطالب بالمستحيل، ولا يرفع شعارات إسقاطية، بل يطالب بحقوق دستورية تتعلق بالكرامة والعدالة والفرص.
وهنا، تملك الدولة فرصة ثمينة لتجديد العقد الاجتماعي، من خلال الإنصات الجاد، والتفاعل المسؤول، ووضع إجراءات واقعية تستجيب للمطالب المرفوعة. ولا يتعلق الأمر بمجرد وعود أو برامج بلاغية، بل بخطوات قابلة للقياس، تشمل إصلاح الإدارة، وتحسين الأجور، وتجويد التعليم، وإعادة الاعتبار للمنظومة الصحية.
إن تجاهل هذه المطالب، أو تأجيلها، يعني ترك الباب مفتوحًا أمام عودة الإحباط وتراكم الاحتقان، وهو ما قد يصعّب مستقبلاً أي عملية إصلاح.
جيل يطلب الحياة بكرامة… لا أكثر
احتجاجات “جيل زد 212” ليست مجرد حدث عرضي، بل مؤشر على تحول عميق في الوعي السياسي والاجتماعي المغربي. جيل خرج عن صمته، لا ليهدم، بل ليبني. لا ليرفض فقط، بل ليقترح ويصوغ أولويات وطنية جديدة.
إنها لحظة فارقة، والكرة الآن في ملعب الدولة ومؤسساتها السياسية والتنفيذية. فإما أن يُنظر إلى هذا الحراك كفرصة لبناء مغرب أكثر عدالة وتوازنًا، أو أن يُهدَر هذا الزخم تحت وطأة الحسابات الضيقة والمقاربات التقليدية.
إنه جيل يقول للدولة: “نحن هنا… لا نطلب المستحيل، فقط نريد أن نعيش بكرامة، ونتعلم بجدية، ونعمل بفرص عادلة”. فهل من يسمع؟