الاحتجاج في ظل الدستور المغربي: بين مكتسبات الحرية وحدود المسؤولية

بوشعيب البازي

في خضم التحولات الكبرى التي شهدها المغرب خلال العقد الأخير، تبرز تجربة المملكة في مجال الحريات العامة كأنموذج استثنائي في السياقين العربي والإفريقي. فقد جاء الفصل 29 من دستور 2011 ليؤكد بشكل صريح أن “حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي مضمونة”، مع التشديد على تنظيم ممارسة هذه الحقوق وفق ما يحدده القانون، في انسجام تام مع مقتضيات دولة الحق والمؤسسات.

هذا التنصيص الدستوري ليس مجرد إعلان نوايا، بل هو انعكاس لرغبة سياسية واضحة في توسيع هامش الحريات، وتعزيز الديمقراطية التشاركية، وترسيخ ثقافة المشاركة المواطنة. وهو ما أكده الملك محمد السادس مرارًا، آخرها في رسالته الموجهة إلى المشاركين في الندوة الوطنية التي نُظمت تخليدًا للذكرى الستين لأول برلمان مغربي، حيث أبرز أن دستور 2011 جاء ثمرة إصلاحات هيكلية عميقة، توجت بإعادة هندسة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتعزيز موقع السلطة التشريعية، واستقلال السلط، وربط المسؤولية بالمحاسبة.

جيل Z: بين المطالب المشروعة ومحاولات التوظيف المغرض

تُعد التحركات الاحتجاجية التي عرفتها المملكة مؤخرًا، والتي شارك فيها شباب “جيل Z”، تجليًا طبيعيًا لحيوية المجتمع المدني المغربي، وقدرته على التعبير عن تطلعاته بوسائل سلمية. فقد تركزت الشعارات والمطالب حول قضايا حيوية تمس معيش المواطن اليومي، وعلى رأسها الصحة والتعليم والشغل، وهي قضايا لطالما كانت في صلب السياسات العمومية.

غير أن ما شاب بعض هذه التحركات من انزلاقات محدودة، تمثلت في محاولة بعض الأطراف المشبوهة ركوب موجة الاحتجاج وتحويلها من تعبير سلمي إلى مواجهات مع السلطات، يطرح تحديًا حقيقيًا يتعلق بكيفية حماية حرية التعبير دون المساس بالنظام العام.

وبحسب الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية، رشيد الخلفي، فإن قرار منع بعض التجمهرات غير المرخصة جاء انسجامًا مع مقتضيات القانون، بهدف تحقيق التوازن بين حق المواطن في التظاهر السلمي (الفصل 29)، وحق المجتمع في الأمن والاستقرار (الفصل 21)، مؤكدا أن تدخلات القوات العمومية كانت محكومة بالشرعية القانونية، وتمت وفق مبدأ التدرج واحترام الضوابط المهنية.

وسائل الإعلام المضللة وتزييف الحقائق

في هذا السياق، تبرز إشكالية الإعلام الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي، التي تحولت في بعض الحالات إلى منصات لنشر الأخبار الزائفة والفيديوهات المفبركة، في محاولة لخلق صورة مغلوطة عن الوضع الداخلي، واستهداف الثقة في المؤسسات.

وتجد هذه المحاولات بيئة خصبة في ضعف الثقافة القانونية لدى البعض، وعدم التمييز بين الاحتجاج المشروع و”التحريض على الفوضى”. وهنا تظهر أهمية الرهان على التربية المدنية، والإعلام المسؤول، وتعزيز الوعي الدستوري في أوساط الشباب.

الإصلاحات الاجتماعية والاستجابة الملكية

ما يميز السياق المغربي هو أن الاحتجاجات لا تواجه بالقمع، بل تقابل بالإصغاء والمعالجة المؤسساتية. فقد أحال الملك محمد السادس ملف إصلاح المنظومة الصحية إلى ولي العهد الأمير مولاي الحسن، في إشارة إلى أهمية هذا الورش، ورهانه على جيل الشباب في قيادة الإصلاحات.

كما تجسد التدخلات الميدانية الملكية في قطاعات الصحة، من خلال مشاريع كبرى كالمركب الجهوي للصحة النفسية بجهة الدار البيضاء-سطات، مدى الجدية في الاستجابة لحاجيات المواطنين، وتوفير بنية تحتية صحية تراعي كرامة المواطن وجودة الخدمات.

الخصوصية المغربية: نظام ملكي متجذر في التاريخ ومندمج في العصر

من بين النقاط التي غالبًا ما يغفلها المحللون الخارجيون عند تقييم الوضع في المغرب، هي الخصوصية العميقة للعلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الملك والشعب، والتي ترتكز على ميثاق البيعة والولاء، كركيزة ثقافية ودينية وسياسية، تضمن استقرار النظام السياسي، وتعزز مشروعية المؤسسات.

ويبدو هذا التلاحم الشعبي واضحًا في طريقة تعاطي المغاربة مع الأحداث الداخلية؛ حيث يميزون بذكاء بين المطالب المشروعة و”الركوب السياسي المغرض”، ويدركون أن الأمن والاستقرار ليسا منة من أحد، بل شرط أساسي لتحقيق التنمية الشاملة.

طريق الاحتجاج المشروع نحو الإصلاح المستدام

إن التجربة المغربية في تدبير الحريات والاحتجاجات تؤكد مرة أخرى أن الاحتجاج لا يتناقض مع الاستقرار، بل يمكن أن يكون رافعة للإصلاح، متى تم في إطار القانون، واحترام المؤسسات، وروح المسؤولية.

ولعل ما أظهره شباب المغرب من وعي ونضج في التعبير عن قضاياهم، يقابله وعي مؤسساتي بأهمية الإصغاء والاستجابة الذكية، بعيدًا عن المقاربات الأمنية الصرفة، في إطار رؤية متكاملة تؤمن بأن المواطن شريك في القرار، لا مجرد متلقي له.

وفي عالم متغير، حيث تتسارع التحديات، يبقى المغرب بحاجة إلى تعزيز ثقافة الحوار، وتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات، وبين الحرية والنظام، بما يصون وحدته، ويحفظ مكتسباته، ويعزز مكانته في محيطه الإقليمي والدولي كنموذج للإصلاح السلمي والتطور المتدرج.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com