فضحٌ وتحليل ، خطاب عبد القادر بن قَرينَة وتجليات محاولات النظام الجزائري استغلال «جيل زد 212»

بوشعيب البازي

الرباط — منذ ثمانية أيام، يعرف المغرب موجة احتجاجية شبابية رفعت شعارات مطالبية بتحسين التعليم والصحة ومحاربة الفساد، وحملت توقيع حركة شبابية رقمية عرفت باسم «جيل زد 212»، المنظمة جزئياً عبر منصات رقمية مثل ديسكورد. وشهدت هذه الاحتجاجات زخماً شعبياً في عدة مدن، لكن طابعها العام ظل سلمياً مع إدانات رسمية وشعبية لأي عنف أو تخريب.

في خضم هذا السياق الداخلي، برزت محاولةٍ خارجيةٍ واضحةٍ لمحاولة توجيه المسار الشعبي ، خطاب ألقاه عبد القادر بن قَرينة، زعيم حزب «البناء الوطني» الجزائري، أطلق فيه دعوات علنية للمحتجين في المغرب تتجاوز المطالب الاجتماعية المحلية إلى دعوات تخريبيةٍ ووصلت حدّ اقتراح «محاصرة القصر الملكي» في محاولة لاستغلال ورقة «التطبيع» ذريعة للاقتناع بضرورة تصعيد الوضع. ظهور هذه الدعوات على لسان شخصية مقربة من دوائر السلطة الجزائرية، وبصيغتها العلنية، يطرح أكثر من علامة استفهام حول تنسيق أو رغبة رسمية في توظيف الحراك المغربي. 

من الهستيريا الرقمية إلى فضح النوايا

قبل هذا الخطاب العلني، ظهرت إشارات إلى نشاط رقمي واعٍ حاول تضخيم الاحتجاجات عبر حسابات ومنابر مُسيّرة. التقارير الدولية والفرنسية التي راقبت ما يسمى بـ«التدخلات الرقمية الأجنبية» أكدت وجود شبكات إلكترونية تعمل على ترويج محتوى مصمّم لزعزعة الرأي العام في بلدان أخرى، ونشرت أجهزة مختصة تقارير وتحذيرات حول نماذج عمل هذه الشبكات. كان لفرنسا تجربة مشابهة حين رصدت أجهزة حكومية «نشاطاً رقمياً خبيثاً» ومناورات معلوماتية خلال أشهر مضت عبر شبكة ذباب إلكتروني. الإشارة إلى هذه الحالات تُعيد تسليط الضوء على الأساليب نفسها التي يكشف عنها التحليل الرقمي اليوم. 

لكن الحقيقة العملية الميدانية في المغرب تقول شيئاً آخر، رغم وجود بعض مثيري الشغب الذين استغلّوا الاحتجاجات لإحداث أضرار، فإن غالبية تحركات «جيل زد 212» امتازت بالسلمية، والحركة نفسها أدانت العنف صراحة. وفي مواجهة دعوات التحريض من حسابات ومنابر خارجية، اختار الشباب المغربي مساراً يعبّر عن تمسّكه بالمؤسسة الملكية وفي بعض اللحظات عبّر المواطنون العاديون عن تضامنهم مع قوات الأمن عبر لقطات توثّقت في شوارع المدن. هذا الانضباط الشعبي والنأي الواضح عن منطق الفوضى أجهض محاولات الركوب الخارجي. 

لماذا يَعِدّ النظام الجزائري بهذه الخطوات؟

ثمة منطق استراتيجي يقف وراء «توظيف» الحركات الرقمية في دول الجوار لدى بعض أنظمة المنطقة ، إضعاف جيرانٍ إقليميين عبر زعزعة الاستقرار الداخلي، تحويل الجدل العام نحو قضايا هوية وصراع، أو إعادة تعبئة قواعد داخلية تستند إلى خطاب «المواجهة» الخارجية. عندما تُطلَق دعوات علنية من مسؤولين أو شخصيات محسوبة على نظامٍ جارٍ، فإن الرسالة تتعدى تحييد «المجتمع المدني» إلى محاولة استثمار فرصة سياسية. ويظهر هنا أن خطاب بن قرينة ليس مجرد زفير كلامي عابر بل امتدادٌ لنمط عمل رقمي ودبلوماسي سبق توثيقه في حالات أخرى، كما أظهرت تقارير مختصة. 

إلا أن محاولة العزل التحليلي للنظام الجزائري لا ينبغي أن تُغفل عن واقع داخلي أعمق في الجزائر نفسها: احتجاجات واحتقان اجتماعي متراكم تلوح بوادر انفجار أوسع حجماً وأثراً من الحركات التي تُحاول التصوير بها جارياً. وقد يكون من العبث أن يستثمر النظام ما قد يكون في الواقع انعكاساً لأزماته الداخلية لإحداث اهتزاز في محيطه الإقليمي. وفي قراءة معاكسة، فإن التركيز على «تصدير الأزمة» يكشف ضعفاً في القدرة على احتواء الأزمة داخلياً. (ملاحظة تحليلية ،  تتطلب هذه الفرضية مراقبة ديناميكيات الحراك الجزائري بعيداً عن خطاب التهويل أو التقليل). 

موقف المغرب الشعبي والمؤسسي: ضبط النفس والاقتراح السياسي

الدرس الأعظم الذي قدمته الشوارع المغربية في هذه الأيام هو قدرة المجتمع على التفريق بين المطالب الحقيقية والركوب الخارجي عليها. الاحتجاجات، وفق شهادات ومشاهد متداولة، كرّست مطلب تحسين الخدمات العمومية والنهوض بمؤسسات الدولة الاجتماعية، ولم تتحول إلى منبر للخطاب المعادٍ للمؤسسة الملكية. هذا التوازن بين المطالبة والإقرار بالمؤسسة قادر على احتواء محاولات التجييش الخارجية وإجهاض مآلاتها. 

سياسياً، أمام المغرب خياران متكاملان لا متناقضان ،  الأول هو الاستجابة الجدية والممنهجة للمطالب الاجتماعية المرفوعة عبر إصلاحات ملموسة في التعليم والصحة ومحاربة الفساد، والثاني هو تعميق آليات المراقبة والمواجهة الرقمية لمعرفة وتفكيك شبكات التضليل والتأثير الخارجي، بالتوازي مع سياسة خارجية حازمة تفضح ومحكمة للنفوذ الخبيث دون تصعيد دبلوماسي مضر. هذان المساران يضعان البلاد في موقع قوة: تحقيق مطالب المواطن واستعادة المبادرة في السرد الوطني، وفي الوقت نفسه كشف محاولات التدخل الأجنبي إعلامياً ودبلوماسياً. 

من يختطف الحراك؟

إن خطاب عبد القادر بن قرينة لا ينبغي أن يقرأ بمعزل عن سِياق إقليمي وأدواتٍ رقميةٍ تعمل اليوم بآلياتٍ متطورة. لكنه في الوقت نفسه لا يغيّر الجوهر: الشارع المغربي، بمكوناته الشبابية والمدنية، أثبت أنه لا يَقع فريسةً لمشاريعٍ خارجيةٍ تهدف إلى قلب الأولويات الوطنية. ما يحتاجه الوطن الآن هو قراءة شفافة لما وقع، محاسبة لمن يُستخدمون كقنوات لتأجيج الفوضى، وإجراءات إصلاحية تُقنع الشباب أن مطالبهم ليست شعارات تُتداول رقمياً بل حقوقٌ تُجسَّد في سياسات وبرامج ملموسة. وهذا وحده سيكون الرد الأنسب على كل من يحاول استغلال المعاناة ليوظفها في صراعاتٍ إقليميةٍ أو يصنع منها غطاءً لأجنداتٍ لا علاقة لها بالمواطن المغربي. 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com