شهد المغرب خلال الأيام الأخيرة موجة احتجاجية جديدة، قادها شباب الجيل الجديد، المعروف اختصارًا بـ”جيل زد”، رفعوا من خلالها مطالب اجتماعية واقتصادية مشروعة تتعلق بغلاء الأسعار، والبطالة، وصعوبة المعيشة، وتردي الخدمات الصحية العمومية.
لكن الملاحَظ أن هذه التحركات، على عكس ما رُوّج لها في بعض المنابر الأجنبية، لم تكن مؤدلجة أو عشوائية، بل جاءت عفوية الطابع، نابعة من نبض اجتماعي حقيقي، يعكس معاناة فئات واسعة من المواطنين، دون أن تنزلق إلى منطق التصعيد أو الفوضى.
احتجاج مغربي بنَفَس مغربي
ما يميز الاحتجاجات الأخيرة هو أنها حافظت على طابعها السلمي، ولم ترفع شعارات معادية للدولة أو المؤسسة الملكية، بل ركّزت على الحكومة وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية.
هذا السلوك يعكس نضج الوعي السياسي لجيل جديد من المغاربة الذين يؤمنون بحقهم في التعبير، ولكن داخل الأطر التي يكفلها الدستور، وفي احترام تام لرموز الدولة ومؤسساتها.
ورغم هذا الطابع الحضاري، فقد أثارت هذه الاحتجاجات موجة من التعليقات الخارجية، خصوصًا من بعض المؤثرين والمعلقين في المشرق العربي، الذين تعاملوا مع الحدث المغربي بسطحية وسوء فهم للسياق الوطني.
فبين من رأى فيها “ربيعًا مغربيًا” جديدًا، ومن توقع “سقوط نظام”، ضاعت الحقيقة بين الرغبة في التأويل والرغبة في الإسقاط.
سوء الفهم المشرقي… حين تتحول الواقعة إلى فرجة
غالبية التفاعلات القادمة من المشرق العربي – خاصة عبر شبكات التواصل الاجتماعي – كشفت عن نقص فادح في المعرفة بالتاريخ السياسي والاجتماعي المغربي.
بعض المعلقين تعاملوا مع الحدث بمنطق “الفرجة السياسية”، كما لو أن الاحتجاج في المغرب هو نسخة مؤجلة من ثوراتهم الفاشلة.
وفي هذا السياق، كانت خرجة الناشطة اليمنية توكل كرمان مثالًا على هذا التهافت، حين نشرت تدوينات على “فايسبوك” تتحدث عن “اقتحام القصر الملكي”، في خبر زائف أثار موجة من الاستنكار، لأن الواقع على الأرض لم يشهد أي تجاوز من هذا النوع.
لقد سقطت كرمان، ومعها آخرون، في فخ التضليل والتسرع، متجاهلين أن المغرب ليس بلدًا هشًا أو قابلًا للاختراق الإعلامي، بل دولة ذات مؤسسات قوية، وتاريخ طويل في إدارة الأزمات بالحكمة والتدرج.
الملكية المغربية… عمق تاريخي واستقرار مؤسساتي
الذين أسقطوا تجاربهم على الواقع المغربي أخطأوا في فهم جوهر المعادلة المغربية. فالملكية في المغرب ليست مجرّد نظام حكم، بل مؤسسة متجذّرة في التاريخ، تشكل العمود الفقري لهوية الأمة ووحدتها.
ومنذ قرون، كانت ولا تزال الضامن الفعلي لتماسك الدولة واستمرارها، القادرة على التفاعل الذكي مع التحولات الاجتماعية والسياسية دون أن تفقد توازنها أو مشروعيتها.
حتى في ذروة الاحتجاجات، ظل الخطاب الشعبي في المغرب موجّهًا إلى الحكومة، لا إلى المؤسسة الملكية. بل إن العديد من الشباب طالبوا بتدخل الملك لمعالجة الأوضاع، وهو ما يعكس استمرار الثقة في الدور التحكيمي والضامن الذي تضطلع به الملكية.
هذا الوعي الجمعي الراسخ يميز المغرب عن تجارب أخرى في المنطقة، حيث انفرط العقد بين الدولة والمجتمع، وتحولت المطالب إلى فوضى.
جيل “زد” المغربي… وعيٌ لا يُستدرج
جيل “زد” المغربي، الذي نشأ في زمن العولمة الرقمية والانفتاح الإعلامي، ليس قنبلة موقوتة كما يتوهم البعض، بل هو طاقة إصلاحية واعية تبحث عن مكانها في الحاضر والمستقبل.
هو جيل يطالب بالكرامة والعدالة الاجتماعية، لكنه في الوقت ذاته يدرك أن الاستقرار شرط أساسي لأي إصلاح، وأن بناء الدولة لا يتم بالهدم، بل بالتدرج والاقتراح والمساءلة.
لقد أظهرت هذه الاحتجاجات أن الوعي السياسي والاجتماعي في المغرب أعمق من أن يُستغل أو يُحرَّف من قِبل أصوات خارجية. فالمطالب المشروعة موجهة أساسًا إلى الحكومة باعتبارها المسؤولة عن التدبير اليومي للملفات الاجتماعية والاقتصادية، وليس إلى رأس الدولة الذي يمثل رمز الاستمرارية والوحدة الوطنية.
خصوصية مغربية في زمن التعميم
حين واجه المغرب رياح “الربيع العربي” عام 2011، لم يلجأ إلى القمع أو الإنكار، بل اختار الإصلاح في إطار الاستقرار، فعدّل دستوره، ووسع المشاركة السياسية، وفتح المجال للنقاش العمومي.
وهذا ما جعل التجربة المغربية استثناءً في المنطقة، نموذجًا لدولة تعرف كيف توازن بين التحول والحذر، وبين الحرية والنظام.
من حق شباب المغرب أن يحتجّوا، وأن يرفعوا صوتهم، وأن يطالبوا بحقوقهم، فهذا جوهر المواطنة الفاعلة. لكن من غير المقبول أن يتحول الحدث المغربي إلى مادة للتشويه أو الإسقاط من طرف من يجهلون تاريخه. فالمغرب بلد يعرف نفسه جيدًا، ويعرف أين يضع قدميه. و”جيل زد” المغربي ليس عدو الدولة، بل امتداد طبيعي لوطنٍ يؤمن بأن الإصلاح لا يأتي من الشارع وحده، ولا من القصر وحده، بل من التقاء الإرادتين في مشروع وطني مشترك.