في المغرب… المسؤول يُعفى في المساء ويُعيَّن في الصباح!

بوشعيب البازي

في زمنٍ صارت فيه الديمقراطيات الحقيقية تُقاس بعدد من يُحاسَب لا بعدد من يُعفى، ما زال المغرب يعيش على إيقاع مسرحٍ سياسي يتقن فصل “الإعفاءات الدرامية”.

مشهد مألوف ، بلاغ رسمي صارم، لغة رصينة تتحدث عن “اختلالات في التدبير”، ثمّ إعفاء “في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة”… لكن دون محاسبة، طبعًا. كأننا أمام وصفة مغربية خالصة ، نحذف نصف المفهوم ونقدّم الباقي في طبق من البلاغات الرسمية.

النتيجة؟

المسؤول يُعفى من منصبه، يختفي لشهرين، ثم يظهر من جديد على رأس “مؤسسة عمومية استراتيجية” أو “مجلس استشاري مهم”، وكأن الفشل صار شرطًا للترقية.

إنه مبدأ “تدوير النخب” على الطريقة المغربية ، لا نغير الأشخاص، بل فقط نغيّر الكراسي التي يجلسون عليها. ولأننا شعب طيب يؤمن بالبعث بعد الموت، لا نستغرب حين نرى نفس الأسماء التي “أعفيت بسبب التقصير” تعود ببدلة جديدة وابتسامة واثقة. كأن الإعفاء عندنا ليس عقوبة، بل عطلة إدارية مدفوعة الأجر.

في دولٍ أخرى، حين يفشل المسؤول، يبدأ المسار القضائي ،  لجان تحقيق، مساءلات برلمانية، بل وحتى محاكمات علنية. في كوريا الجنوبية، الرئيسة بارك غيون هي حوكمت وسُجنت. في آيسلندا، رئيس الوزراء استقال بعد تسريبات “وثائق بنما” وواجه التحقيق. في رومانيا، الوزراء يُحاكمون لا يُعاد تدويرهم. أما في المغرب، فالإعفاء هو ذروة الشجاعة السياسية، والسكوت بعده يُعتبر “حكمة دولة”.

الملفات الكبرى من قبيل “الحسيمة منارة المتوسط”، وتعثر مشاريع تنموية في مناطق مهمشة، انتهت جميعها بـ”الإعفاء من المهام”… لا “المحاسبة على المهام”.

وكأن الحقيقة تُدفن في ذات اللحظة التي يُذاع فيها البلاغ الرسمي. وفي غياب المحاسبة، تحولت الديمقراطية إلى مشهد مسرحي جماهيري، يُرفع فيه الستار على بطلٍ جديد، بنفس النص القديم.

والجمهور المغربي المسكين، الذي حجز مكانه منذ التسعينات، ما زال يصفق في النهاية، لا إعجابًا، بل من باب الأمل المهني في “إعفاء جديد”.

الأساتذة الجامعيون يسمّون هذا “الإفلات من العقاب المؤسساتي”. أما المواطن البسيط فيسميه ببساطة ، “عفا الله عمّا سلف”. الحقيقة أن الاستقالة في المغرب ليست نهاية المطاف، بل نهاية الشريط الإخباري. وحين نطالب بالمحاسبة، يُقال لنا، “لقد تم اتخاذ الإجراءات اللازمة”.

أي إجراءات؟

إعفاء المسؤول، وتعيين ابن عمّه مكانه.

الديمقراطية، كما يقول البروفيسور جان-لوك مارتان، تُقاس بمدى تفعيل المساءلة لا بعدد البلاغات. لكننا في المغرب نُتقن الفن المعاكس ، كلما كثرت البلاغات، قلّت الأسئلة. إنها ديمقراطية “الواجهة”، حيث يُستبدل الممثل دون أن يُمسّ النص.

وحيث يبقى المواطن متفرجًا وفِيًا، يدخل العرض وهو يعلم أن النهاية محفوظة ،  “تمت معالجة الموضوع وفق ما يقتضيه القانون”… قانون الصمت، طبعًا.

في النهاية، سيبقى السؤال معلقًا فوق منصة الخطاب الرسمي.

هل الإعفاء في المغرب إصلاحٌ حقيقي أم مجرد تقنية لتبريد الغضب الشعبي؟ وإلى أن نجد الجواب، سنواصل العيش في دولةٍ تُبدع في إخراج المسؤولين من الباب… وتعيدهم من النافذة بابتسامة جديدة وشعار أحدث.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com