خطاب الملك محمد السادس: رؤية توازن بين التنمية والعدالة الاجتماعية في زمن التحديات

بقلم نادية الواجب

جاء الخطاب الملكي الذي ألقاه الملك محمد السادس في افتتاح السنة التشريعية الأخيرة من الولاية الحالية للبرلمان المغربي، في لحظة دقيقة من مسار البلاد، وضمن سياق وطني واضح المعالم. فالمغرب، الذي تجاوز أسبوعاً من الاحتجاجات الاجتماعية في عدد من المدن من وجدة إلى أكادير، وجد في هذا الخطاب جواباً مؤسساتياً رصيناً عن أسئلة الشارع، ورسالة طمأنة إلى المواطنين بأن الإصلاح مستمر، وأن التغيير لا يمكن أن يتم إلا في إطار المؤسسات الدستورية.

تجاوز الأزمة وتثبيت منطق الدولة

أكد الخطاب الملكي أن المغرب، دولة مؤسسات قبل أي شيء آخر، قادر على امتصاص الهزات الاجتماعية والتعامل مع المطالب الشعبية بروح إصلاحية هادئة. فالقوى التي حاولت توظيف الاحتجاجات وتحويلها إلى مواجهات عنيفة وجدت نفسها أمام وعي شعبي ناضج، يدرك أن الإصلاح لا يأتي من الفوضى، بل من الاستمرارية والاستقرار.

وقد شدّد العاهل المغربي على أن مشروعه التنموي قائم على هدف واحد: تقليص الفوارق بين الفئات والمناطق، وإرساء العدالة المجالية والاجتماعية كركيزة للتماسك الوطني. في هذا المعنى، كان الخطاب بمثابة رسالة ثقة متبادلة بين العرش والشعب، حيث تلتقي الإرادة الملكية مع تطلعات المواطنين.

التنمية الشاملة بين الرؤية الملكية وعجز الحكومة

لم يُخفِ الخطاب الملكي نقده الضمني لأداء الحكومة الحالية، خاصة في ضعف تواصلها مع المواطنين. فقد شدد الملك على ضرورة إيجاد “توازن بين المشاريع الوطنية الكبرى والبرامج الاجتماعية لتحقيق تنمية شاملة”، في إشارة واضحة إلى أن التنمية لا يمكن أن تُقاس فقط بالمشروعات الضخمة، بل بمدى انعكاسها على حياة المواطن اليومية في التعليم والصحة وفرص الشغل.

الرسالة كانت واضحة: الحكومة مطالبة بأن تقترب أكثر من الشارع، وأن تجعل من الإصغاء للمواطن سياسة عمومية دائمة لا مجرد شعار انتخابي.

المؤسسات أولاً… والدستور فوق الجميع

من أهم ما حمله الخطاب الملكي تأكيد احترام المواعيد الدستورية والمؤسسات المنتخبة، حيث قال الملك بوضوح إن استمرار البرلمان إلى نهاية ولايته دليل على “حرص المؤسسة الملكية على استمرارية العمل التشريعي وتحمل المسؤولية إلى آخر لحظة”.

بهذا الموقف، قطع العاهل المغربي الطريق أمام أي مزايدات أو دعوات غير دستورية لحلّ البرلمان أو إسقاط الحكومة خارج صناديق الاقتراع، مؤكداً أن المساءلة لا تكون إلا عبر الانتخابات. هذه الرسالة رسّخت مرة أخرى أن المغرب يسير بثبات في مسار ديمقراطي مؤسّس على الشرعية الشعبية واحترام القانون.

دور الأحزاب والبرلمان في الدفاع عن القضايا الوطنية

الخطاب الملكي أعاد التذكير بالدور المحوري للبرلمان والأحزاب السياسية، ليس فقط في التشريع، بل أيضاً في “تفعيل الديمقراطية وتقوية ثقة المواطن بالمؤسسات”. كما أبرز أهمية الدبلوماسية البرلمانية في الدفاع عن القضايا الوطنية، وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية التي تواصل المملكة تحقيق مكاسب متتالية فيها على المستوى الدولي.

لقد أراد الملك أن يذكّر الفاعلين السياسيين بأن المعارك الوطنية لا تُخاض بالشعارات، بل بالعمل البرلماني والميداني والدبلوماسي المنسق بين كل مؤسسات الدولة.

حكامة جديدة قائمة على النتائج والمحاسبة

دعا الخطاب إلى نموذج جديد من الحكامة السياسية يقوم على “النتائج والمحاسبة” بدل الخطابات النظرية. وهي إشارة إلى أن عهد التبرير قد انتهى، وأن المرحلة المقبلة تتطلب كفاءة وفعالية أكثر من أي وقت مضى، خاصة مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.

في هذا الإطار، يضع الملك كل الفاعلين السياسيين والمؤسسات المنتخبة أمام مسؤولياتهم في بلورة السياسات العمومية ومواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها البلاد.

العدالة الاجتماعية والاقتصاد المنتج

اقتصادياً، حمل الخطاب دعوة صريحة إلى “عدالة توزيع الثروات ومردودية الاستثمار العمومي”، مع التركيز على “تشجيع الأنشطة الاقتصادية المحلية وخلق فرص العمل، خصوصاً في المناطق الهشة”.

كما دعا إلى تثمين الاقتصاد الأزرق والرقمنة كمحركين أساسيين للتنمية، في انسجام مع الرؤية الاستراتيجية التي تجعل من البحر والتكنولوجيا رافعتين أساسيتين لمستقبل الاقتصاد الوطني.

أما اجتماعياً، فقد أكد العاهل المغربي على أولوية “تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية”، عبر تحسين جودة التعليم والصحة وتكافؤ الفرص بين المجالين الحضري والقروي. كما شدد على أهمية “التمكين الحقوقي للمواطنين” من خلال التواصل والتأطير السياسي والإعلامي.

حضور العرش… وطمأنة المواطن

الخطاب الملكي عكس وعياً دقيقاً بمشاكل المواطن المغربي، من خلال دعوة صريحة إلى التوازن بين المشاريع الكبرى والاستجابة للحاجات اليومية للمواطن.

الملك، الذي يواكب عن قرب تطورات كل القطاعات، أكد أن التنمية ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لخدمة الإنسان المغربي، وخاصة في سياق التحضير لكأس العالم 2030 الذي يشكل فرصة تاريخية لتحديث البنية التحتية وتعزيز صورة المغرب كدولة صاعدة بثبات.

بين المسيرة الخضراء والمستقبل

في ختام خطابه، وضع الملك محمد السادس الجميع أمام مسؤولياتهم الوطنية، في وقت يستعد فيه المغرب للاحتفال بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء. هذه المناسبة، بما تحمله من رمزية تاريخية، تعيد التذكير بقدرة المغرب على مواجهة التحديات بوحدة وتلاحم.

فكل محاولات التشويش على استقرار المملكة، داخلياً أو خارجياً، لن تنجح في تعطيل مسارها الصاعد. فالمغرب اليوم أقوى بمؤسساته، أكثر حضوراً في إفريقيا، وأقدر على فرض احترامه دولياً.

إنه خطاب الرؤية والوحدة، خطاب الاستمرارية والإصلاح، الذي يضع المغرب بثقة في مسار التنمية المتوازنة والمواطنة الفاعلة، تحت قيادة ملك يقرأ الواقع بعين يقظة، ويقود بلاده نحو المستقبل بخطى واثقة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com