شرم الشيخ تستعدّ مجدّداً لاحتضان واحدة من أكثر القمم حساسية في تاريخ المنطقة، قمة تبدو على السطح “إنسانية” و”سلامية”، لكنها في العمق تحمل ملامح إعادة رسم للخريطة الديموغرافية الفلسطينية تحت غطاء “الاستقرار”. القمة التي دعا إليها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره الأميركي دونالد ترامب، بمشاركة أكثر من عشرين زعيماً عالمياً، قد تكون بوابة التفاوض غير المعلن حول أخطر ملفات “صفقة القرن” المؤجلة: توطين الفلسطينيين في صحراء سيناء.
بين الرفض العلني والضغوط الخفية
منذ طرح فكرة “توسيع غزة جنوباً” في 2018، ومصر تُظهر رفضاً قاطعاً لأي مشروع يستهدف تحويل جزء من سيناء إلى وطن بديل للفلسطينيين. فالقاهرة تدرك أن القبول بمثل هذا التصوّر سيعني نسفاً كاملاً للتوازنات الداخلية والإقليمية، وفتحاً لباب صراع جديد داخل حدودها.
لكنّ الرياح الدولية لا تهدأ. فالدعم المالي والسياسي الذي تتلقاه مصر من واشنطن والرياض يأتي مشروطاً – ولو ضمناً – بمرونة أكبر في “التعاون” مع خطة إعادة الإعمار في غزة، وهي الخطة التي لا يمكن فصلها عن التوجه الأميركي-الإسرائيلي الرامي إلى “إعادة توزيع” السكان على أراضٍ أكثر أمناً من وجهة نظر تل أبيب.
قمة السلام أم قمة التوطين؟
البيان المصري الرسمي تحدّث عن “إحلال السلام والاستقرار في الشرق الأوسط”، لكنّ خلف هذا الخطاب الدبلوماسي المألوف، تتحرك أجندة أكثر واقعية، كيف يمكن للمنطقة أن تتعامل مع مليون ونصف المليون فلسطيني فقدوا بيوتهم في حرب أبادت أكثر من 90% من عمران غزة؟
تقول مصادر دبلوماسية إن واشنطن تمارس ضغوطاً هادئة لإقناع القاهرة بقبول خطة “المنطقة الآمنة” في شمال سيناء، تحت مسمى “مخيمات إنسانية مؤقتة” بتمويل سعودي وخليجي، على أن تتحول لاحقاً إلى “مناطق استقرار دائمة”.
بمعنى آخر، يُراد لهذه القمة أن تضع الإطار السياسي لمرحلة ما بعد غزة: مرحلة لا تعود فيها فلسطين كما كانت، ولا تبقى سيناء كما هي.
معادلة الدعم والابتزاز
الولايات المتحدة، التي عادت بقوة إلى المشهد الشرق أوسطي عبر إدارة ترامب الثانية، تعرف جيداً أن مصر، الغارقة في أزمة اقتصادية خانقة، لن تقوى على رفض مطلق للدعم الخليجي والأميركي.
السعودية، من جهتها، ترى في هذه اللحظة فرصة لتثبيت موقعها كعرّابة “السلام الإقليمي”، مقابل ضمانات أمنية أميركية وتطبيع اقتصادي مع إسرائيل.
وهكذا، تجد القاهرة نفسها في موقع المساومة الصعبة: بين رفضٍ شعبي عارم لأي تنازل يمس السيادة على الأرض، وضغطٍ خارجي يربط المساعدات بمواقف سياسية.
غزة بين الأنقاض والمجهول
في الوقت الذي تعقد فيه القمة، يعود نصف مليون فلسطيني إلى مدينة غزة المدمّرة، بين ركام المنازل وذكريات لم يبق منها سوى الغبار.
تتحدث الأرقام عن أكثر من 67 ألف قتيل منذ اندلاع الحرب، أغلبهم من النساء والأطفال، وعن قطاع تحول إلى أطلال. ومع ذلك، ما زال الفلسطينيون يتمسكون ببيوتهم المهدّمة وبفكرة العودة، رغم أن المفاوضات الدولية تمضي في اتجاه آخر تماماً.
صفقة القرن… من الباب الخلفي
لا شيء في السياسة يُعاد تدويره مجاناً. فـ”صفقة القرن” التي وُضعت على الرف قبل أعوام، تعود اليوم من باب “التهدئة” و”إعادة الإعمار”.
الخطة الجديدة لا تتحدث عن تنازل رسمي مصري، بل عن “تعاون إنساني” و”ممرات مؤقتة”، وهو ما يشكل عملياً توطئة لواقع ديموغرافي جديد يصعب التراجع عنه لاحقاً.
مصادر مقربة من المفاوضات تشير إلى أن بعض بنود “اتفاق ما بعد غزة” تنص على إنشاء منطقة دولية عازلة في رفح، بإشراف قوة متعددة الجنسيات، تكون بوابة لإسكان آلاف الفلسطينيين الذين لن يجدوا مأوى داخل القطاع المدمر.
سيناء… من الأمن إلى الهوية
أي تغيير في سيناء، ولو باسم “السلام”، يهدد بتفجير توازنات دقيقة داخل الدولة المصرية. فسيناء ليست مجرد أرض، بل رمز للسيادة الوطنية، وجزء من الذاكرة العسكرية التي لا تزال جراحها مفتوحة منذ حروب 1967 و1973.
وبينما تروّج واشنطن لفكرة “تبادل المنافع”، يرى مراقبون أن القاهرة تدرك أن القبول بمثل هذه الصيغة يعني بداية تآكل الهوية الوطنية في أهم منطقة حدودية لمصر.
القمة التي ستعقد في شرم الشيخ ليست مجرد لقاء دولي لإنهاء الحرب، بل محطة اختبار حقيقية لموقف مصر من الضغوط الأميركية والإسرائيلية.
هل ستصمد القاهرة على موقفها الرافض لتوطين الفلسطينيين في سيناء، أم ستختار طريق المساومة تحت غطاء “الإنسانية” و”الاستقرار”؟
الجواب، كما يقول أحد الدبلوماسيين العرب، “سيظهر من شكل البيان الختامي لا من الكلمات التي سيلقيها القادة أمام الكاميرات”.