في قلب المؤسسة التشريعية المغربية، حيث يُفترض أن تُصاغ القوانين وتُراقب السياسات وتُعبَّر إرادة الأمة، تنكشف مفارقة صادمة، نوابٌ وبرلمانيون يفتقرون حتى إلى شهادة التعليم الابتدائي. ليس الأمر إشاعة من إشاعات المقاهي السياسية، بل واقع موثّق وملموس في ممارسات يومية داخل قبة البرلمان، حيث يجلس من لا يملك أدوات الفهم التشريعي إلى جانب من يُمسك بخيوط القرار والتوجيه.
برلمان بطبقتين: القلة التي تفهم، والأغلبية التي تصفّق
الخلل البنيوي في البرلمان المغربي لا يتجسد فقط في المستوى المعرفي أو التعليمي لعدد من أعضائه، بل في طبيعة هندسته الداخلية التي خلقت طبقتين واضحتين:
- طبقة صغيرة من البرلمانيين المخضرمين، ممن يمتلكون شبكات النفوذ والقدرة على توجيه النقاشات وحسم القرارات.
- وطبقة أوسع من البرلمانيين الذين يجدون أنفسهم على الهامش، يرفعون الأيادي للتصويت دون أن يدركوا بالضرورة مضمون ما يُصوّت عليه.
هذا التفاوت خلق برلمانًا يبدو من الخارج فضاءً ديمقراطيًا متوازنًا، بينما هو في الداخل أقرب إلى مجلس صوري تتحكم فيه قلة قادرة على تحويل العمل التشريعي إلى مجرد تمرين شكلي لإضفاء الشرعية على قرارات جاهزة.
من أين يبدأ الخلل؟
الخلل يبدأ من بوابة الترشح نفسها. فالقانون الانتخابي لا يشترط الحد الأدنى من الكفاءة أو التكوين، بل يفتح الباب أمام من يمتلك رصيدًا انتخابيًا في المال أو العصبية أو الولاء الحزبي.
وبذلك، تتحول المقاعد البرلمانية إلى مكافأة سياسية أو تجارية أكثر منها تمثيلًا فعليًا للأمة. فغياب النقاشات المعمقة، ضعف الأداء التشريعي، وتراجع الثقة الشعبية في المؤسسة البرلمانية، التي كان يُفترض أن تكون مرآة لنبض المجتمع، لا مسرحًا للمجاملات والولاءات.
البرلماني الذي لا يقرأ التقارير
في الكواليس، يتحدث موظفون بالبرلمان عن مشهد متكرر، تقارير لجنة المالية أو الدبلوماسية أو الشؤون الاجتماعية تُوزع قبل الجلسات، لكن عددًا من النواب يضعها جانبًا دون تصفحها، مكتفيًا بانتظار “الإشارة” من رئيس الفريق أو من أحد البرلمانيين النافذين لتحديد موقفه في التصويت. هذا السلوك يكشف أزمة ثقافة سياسية عميقة: غياب الحس التشريعي لدى من يُفترض أنهم مشرّعون.
بين الامتياز والمسؤولية الغائبة
ما يزيد من حدة التناقض أن الامتيازات المادية والرمزية التي يحظى بها البرلماني المغربي كبيرة، مقارنة بضعف المردودية التشريعية. تعويضات سخية، معاشات مضمونة، وإمكانيات لوجستيكية مهمة، لكن في المقابل، الحضور المتقطع، وضعف المساهمة في اللجان، وقلة المقترحات التشريعية ذات القيمة.
وحدها “النخبة الضيقة” هي التي تملك مفاتيح القرار داخل الأحزاب واللجان الدائمة، وهي التي تُوجّه المواقف وفق مصالحها أو حساباتها الخاصة، تاركة البقية في دور “الديكور الديمقراطي”.
هل نحن أمام أزمة تمثيلية أم أزمة وعي سياسي؟
ربما الاثنان معًا. فالمؤسسة البرلمانية لم تفقد فقط جاذبيتها لدى النخب والكفاءات، بل أصبحت أداة لإعادة إنتاج الرداءة السياسية، ما دام الوصول إليها لا يتطلب سوى النفوذ المحلي أو الولاء الحزبي، لا المعرفة ولا التجربة. ومادام النقاش البرلماني يُدار بمنطق التعليمات بدل الاقتناع، فإن المؤسسة التشريعية ستظل رهينة منطق التحكم بدل منطق المراقبة والمحاسبة.
الحاجة إلى ثورة في الثقافة السياسية
ليس المطلوب فقط تعديل القانون الانتخابي، بل إعادة تعريف الوظيفة البرلمانية ذاتها. يجب أن يكون البرلماني نموذجًا في الكفاءة، في التكوين، وفي فهم السياسات العمومية. فالبرلمان، في نهاية المطاف، ليس مقهى سياسيًا، بل مدرسة للديمقراطية. والمدرسة لا تُدار بمن لا يعرف القراءة.