“فوسفاط وجوج بحورا”… وعيشَة مقهورة: حين تُباع ثروات المغرب في المزاد العائلي وتُستنزف موارده باسم التنمية
بوشعيب البازي
في بلدٍ تتقاطع فيه الجبال مع البحر، وينبع الماء من الصخور، وتلمع الثروات في باطن الأرض، ما زال المواطن المغربي يردد — بمرارة فلسفية لا تخلو من سخرية — شعاره الأبدي، “فوسفاط وجوج بحورا… وعايشين عيشة مقهورة”.
عبارة أصبحت مرآة تختصر علاقة المغاربة بثرواتهم الطبيعية، ثروات لا تنضب، لكن لا تُقسم، موارد وافرة، لكن لا تُدار، و”نعمة وطنية” تحوّلت إلى ريع خاص يدور في فلك السياسة، والولاء، والعائلات المقرّبة.
الماء… ملك عمومي تُتاجر فيه الشركات
المادة الأولى من قانون الماء المغربي تقول إن “المياه ملك عمومي”، لكن الواقع يقول إن الملكية العمومية شيء، والتدبير العائلي شيء آخر.
فالمياه التي تنبع من جبال الأطلس لا تصل إلى بيوت القرى المجاورة لتلك الجبال نفسها، بل تذهب إلى مصانع التحويل والتعبئة التابعة لكبريات الشركات، التي تبيعها للمواطن في قنينة “فاخرة” بستة دراهم للتر ونصف — أي أغلى من لتر البنزين في بعض المناطق!
الشركة الأكثر شهرة في هذا المجال، “سيدي علي”، تحوّلت إلى رمز تجاري للترف المائي في بلد العطش.
وعندما قرّر المغاربة مقاطعتها في 2018، اعتبرها بعض الوزراء “مؤامرة على الاقتصاد الوطني”، بينما اعتبرها المواطنون استعادة متأخرة لكرامتهم المائية.
نتيجة المقاطعة؟ خسارة تفوق 17 مليون دولار، وتراجع مبيعات الشركة بنسبة غير مسبوقة، لكن دون أن تغيّر شيئًا في الأسعار أو في منطق السوق. فالسلطة لا تعاقب الاحتكار، بل تمنحه تراخيص إضافية.
المفارقة أن سكان “تارميلات” — حيث تُستخرج مياه “سيدي علي” — يعانون من انقطاعات متكررة في المياه الصالحة للشرب، في مشهد يجعل المواطن يشتري ماءه من شركة تسرق ماءه أساسًا.
إنه نوع جديد من الاستعمار المائي الداخلي، شعارُه غير المعلن: “اشرب لتنسى من عطّشك”.
الفوسفاط… البقرة الحلوب التي لا يعرف أحد حليبها
لا يوجد مغربي لا يعرف أن بلده ثالث أكبر مصدر للفوسفاط في العالم، لكن لا أحد يعرف أين تذهب مداخيله.
“المجمع الشريف للفوسفاط” (OCP)، المؤسسة السيادية التي تُدير هذا الذهب الأبيض، توصف في الصحافة الدولية بأنها “البقرة الحلوب للنظام”.
بقرة لا تُدرّ على المواطن سوى الفتات، بينما تدرّ على النخب المقرّبة ملايين الدراهم في شكل امتيازات، وتعويضات، وصفقات غامضة لا تدخل بورصة ولا تخضع لتدقيق.
التقارير المستقلة تتحدث عن اختلاسات بلغت 10 مليارات درهم، وعن صفقات “تضخيم إنتاجي” و”غياب تام للمراقبة المحاسباتية”.
لكن المجلس الأعلى للحسابات حين اقترب من “السرّ”، اختار لغة تقنية دبلوماسية، وقال إنه “يتفادى الإضرار بمصالح المؤسسة”، وكأن هذه المؤسسة كيان سماوي لا يُسأل عما يفعل.
بينما يستثمر المغرب أرباح فوسفاطه في مشاريع ترويجية وواجهات دبلوماسية، يظل المواطن في خريبكة، مهد الفوسفاط، يتنفس الغبار ويبحث عن شغل مؤقت في الحفر، في أرض غنية وساكنها فقير.
بحران… وسمك في المتاحف فقط
بلد يملك واجهتين بحريتين، ومساحة مائية تُدرّ مليارات الدراهم سنوياً، لكن أغلب مواطنيه لا يعرفون طعم السمك إلا في المناسبات.
السمك المغربي يُصدَّر لأوروبا، ويُباع هناك بسعر أرخص مما يُباع به في أسواق الدار البيضاء أو أكادير، لأن السمك في المغرب لا يُصطاد للمغاربة، بل يُستخرج بالعملة الصعبة.
اتفاقيات الصيد البحري مع الاتحاد الأوروبي تُقدَّم كـ”شراكة استراتيجية”، لكنها في الواقع صفقة تجارية غير متكافئة، يحصل فيها الأوروبيون على الكيلوغرام من الأخطبوط بثمن وجبة سريعة في باريس، بينما يحصل الصياد المغربي على الفتات.
يُضاف إلى ذلك جيش “الشناقة” الذين يلتهمون الأرباح بين المرفأ والسوق، ليتضاعف السعر من 3 دراهم في الجملة إلى 40 درهماً في المفرق.
الصيادون التقليديون، أو “البحّارة”، يعيشون في مراكب خشبية تشبه قوارب الموت، بلا تأمين، بلا حماية، بلا راحة بيولوجية.
وفي المقابل، تُوزَّع رخص الصيد في أعالي البحار على الجنرالات، والوزراء السابقين، وأصدقاء السلطة، الذين يملكون الشركات على الورق فقط، ويُبرمون العقود باسم الوطن، لكن الأرباح تهاجر إلى بنوك الخارج.
ثروات تُدار بعقلية الريع… لا بعقلية الدولة
كل القطاعات التي تُفترض أن تكون دعامة للسيادة الاقتصادية — الماء، الفوسفاط، الصيد البحري — تخضع لمنطق الريع والمحسوبية أكثر من منطق الاستثمار.
الشفافية غائبة، والمساءلة مؤجلة، والمواطن آخر من يعلم وأول من يدفع الثمن.
حين تعلن الحكومة عن “المخطط الوطني للماء”، يتضمن بناء ثلاثة سدود سنوياً وتحلية مياه البحر، لكنها لا تذكر شيئاً عن الشركات التي ستستفيد من الصفقات، ولا عن المناطق التي ستُروى.
وحين يُعلن عن ارتفاع صادرات الفوسفاط، لا ينعكس ذلك في التعليم أو الصحة أو التشغيل.
أما حين يرتفع ثمن السمك، فالمبررات جاهزة: “الوقود ارتفع”، “الراحة البيولوجية”، “التقلبات الدولية”… كلها كلمات لتغطية نظام فوضوي من الداخل ومنظّم في الخارج.
الفساد… ممنوع اللمس
في المغرب، إعلان أسماء الفاسدين في قطاع الثروات الطبيعية أشبه بكشف الأسرار العسكرية.
حين تجرأت صحيفة مغربية على نشر لائحة “المستفيدين من رخص الصيد”، تبين أنهم من عالم السياسة والأمن والجيش، وأن الرخص تُمنح لا لمصلحة الاقتصاد، بل كمكافأة على الولاء.
ومن يطالب بالمحاسبة، يُجاب بـ”عفا الله عما سلف”، وكأن الفساد عقيدة رسمية تُمارَس بالتسامح.
خاتمة: الثروة المفقودة والشعب المتفرّج
الأرقام الرسمية تقول إن قيمة الثروات الطبيعية في المغرب تتجاوز 12.833 مليار درهم، أي أكثر من تريليون دولار.
لو وُزعت هذه الثروة بعدل، لكان كل مغربي يعيش حياة أوروبية على أرض إفريقية. لكن بدل ذلك، يعيش المغربي على أرض غنية بجيبٍ فقير، يسقي شركات المياه من منبعه، ويصدّر سمكه دون أن يذوقه، ويحفر فوسفاطاً لا يرى عائداته.
وفي النهاية، تبقى المعادلة ساخرة بقدر ما هي موجعة:
بلد عنده فوسفاط وبحران… لكن عايش عيشة عطشان.