في كل مرة تشتد فيها الأزمة الاقتصادية أو الاجتماعية، يتعالى في المغرب صوتٌ واحدٌ من فئات واسعة من المواطنين، “يجب حلّ الحكومة!”. مطلب يبدو في ظاهره تعبيراً عن الغضب المشروع من ضعف الأداء، لكنه في جوهره هروب جماعي من أصل الداء، غياب ربط المسؤولية بالمحاسبة.
منذ عقود، يعيش المغرب على إيقاع تغييرات متكرّرة في الحكومات والوزارات والمسؤولين، دون أن يواكب ذلك منطق المحاسبة الدقيقة والواضحة. فكم من وزير غادر منصبه بعد أن خلّف وراءه ملفات مفتوحة أو برامج فاشلة أو مشاريع متعثرة، دون أن يُسأل عما أنجز وما أهدر، وكأنّ تولي المنصب العام مجرد محطة عابرة بلا أثر ولا تقييم.
الحكومة ليست المشكلة… بل المنظومة التي لا تحاسب
إن الدعوة إلى تغيير الحكومة أو “إعادة ترتيب البيت السياسي” قد تُرضي الغضب الشعبي مؤقتاً، لكنها لا تمسّ جوهر الأزمة. فالمشكل لا يكمن في الأشخاص بقدر ما يكمن في غياب منظومة محاسبة حقيقية تضمن ألا يتحول المنصب العمومي إلى حصانة ضد المساءلة.
حين تغيب المحاسبة، تصبح المسؤولية مجرّد لقبٍ إداريٍّ بلا مضمون، وتتحوّل المناصب إلى محطات عبور للوجاهة الاجتماعية والمصالح الخاصة. في هذه البيئة، يمكن لأي شخص أن يتقلّد مسؤولية، كبيراً كان أو صغيراً، وهو مطمئن إلى أن لا أحد سيطالبه غداً بجرد الحساب أو تفسير القرارات.
الإصلاح لا يمر عبر الإقالات… بل عبر بناء الثقة
لقد أظهر النموذج التنموي الجديد الذي تبنّاه المغرب، أن الطموح الوطني في التقدّم لا يمكن أن يتحقق إلا عبر ثقافة المحاسبة والمواكبة والتقييم. فالحكامة ليست شعاراً سياسياً للاستهلاك، بل هي شرط وجوديّ لأي إصلاح حقيقي.
إن ربط المسؤولية بالمحاسبة لا يعني فقط العقاب عند التقصير، بل أيضاً تحفيز النجاعة وتكريم الكفاءة. حين يشعر الوزير أو الوالي أو المدير أن أداءه سيُقاس بالأرقام والنتائج، سيعمل بعقلية مختلفة عن تلك التي تكتفي بالشعارات والمذكرات الإدارية.
الشفافية هي الضمانة الوحيدة ضد الفساد
المغرب اليوم في حاجة إلى مؤسسات رقابة فعالة ومستقلة، لا تخضع لتوازنات حزبية أو ضغوط سياسية. فالقوانين موجودة، والدستور واضح في الفصل الأول حين نصّ على أن “المسؤولية تقترن بالمحاسبة”، لكن المشكل يكمن في التطبيق.
لا يمكن لأي إصلاح أن يصمد ما لم يتحول هذا المبدأ الدستوري إلى ممارسة يومية، تبدأ من الجماعات المحلية وتنتهي عند أعلى هرم القرار الإداري.
المغزى الحقيقي للديمقراطية
في الديمقراطيات الناضجة، لا يُقاس تطوّر النظام السياسي بتعاقب الحكومات، بل بقدرتها على محاسبة نفسها. فالاستمرارية المؤسساتية لا تعني غياب التقييم، كما أن التغيير لا يُقاس بعدد الوجوه الجديدة بل بنوعية الحوكمة التي تنتجها.
حين يترسخ في الوعي العام أن المسؤولية شرفٌ مؤقت مقرونٌ بالمحاسبة، سيتحوّل المنصب العمومي من امتياز سياسي إلى واجب وطني.
إن المطالبة بحل الحكومة دون مساءلة المسؤولين الذين أخلّوا بواجبهم، تشبه إصلاح بيتٍ آيل للسقوط بطلاءٍ جديد. الإصلاح الحقيقي يبدأ من بناء ثقافة المحاسبة والشفافية، لا من تغيير الوجوه أو تبديل المقاعد. فبدون المحاسبة، سيبقى الفساد يتلوّن، والأسماء تتبدّل، لكن النتيجة واحدة: ضياع الثقة في الدولة ومؤسساتها.