حين تصبح الشكوى فناً عمومياً: وساطة المملكة في مواجهة “إدارة لا تُجِيب”

بقلم: بوشعيب البازي

في بلدٍ يحب أن يتحدث عن “النجاعة” و”الحكامة” بقدر ما تتحدث إداراته عن “تعذر الجواب”، قرّر رئيس الحكومة المغربية، عزيز أخنوش، أن يذكّر الوزراء بأنّ مؤسسة وسيط المملكة ليست ديكوراً دستورياً ولا بريداً إلكترونياً للنسيان، بل جهازاً حقيقياً للوساطة، من المفروض أن يسمع أنين المواطن حين يصطدم بجدار الصمت الإداري.

المنشور الذي وجهه أخنوش إلى الوزراء وكتاب الدولة بدا هذه المرة أكثر صرامة من المعتاد، مطلوب تعيين مخاطب دائم داخل كل إدارة، مزوّد بصلاحيات حقيقية، لا بكرسي إضافي وابتسامة شكلية. فـ”المخاطب الدائم” لم يعد ترفاً بيروقراطياً، بل ضرورة لإنقاذ صورة المرفق العمومي الذي صار يجرّ خلفه سمعة ثقيلة من التباطؤ واللامبالاة.

لكن خلف نبرة التحفيز الحكومية، يختبئ واقع إداري أكثر عناداً من الخيال، إدارات لا تردّ، أخرى تردّ دون أن تقول شيئاً، وثالثة تعتبر أن تظلمات المواطنين مجرّد إزعاج موسمي. وهكذا تحوّلت الوساطة، أحياناً، إلى وظيفة تأملية أكثر منها عملية.

وساطة في زمن الشكاوى المتراكمة

تقرير مؤسسة وسيط المملكة لسنة 2024 جاء كصفعة ناعمة على وجه البيروقراطية المغربية. 5774 ملف تظلم في عام واحد، أغلبها يخص قطاعات اجتماعية يفترض أنها الأقرب للمواطن ، السكن، التغطية الصحية، التقاعد، والعدالة. أرقام تكشف عن إدارة ما زالت تنظر إلى “الخدمة العمومية” كخدمة لها، لا للمواطن.

رئيس الحكومة، في لغته الإدارية الرصينة، دعا إلى “التفاعل المسؤول” و”الرد داخل آجال معقولة”. لكن المواطن، الذي قضى شهوراً ينتظر ردّاً على مراسلة ضاعت في درج مصلحة ما، صار يترجم هذه العبارات إلى ، ربما في حياتنا القادمة.

العباس الوردي: حين تتحول الوساطة إلى مختبر للعدالة الإدارية

الأستاذ العباس الوردي، أحد الأصوات القانونية التي لا تُجامل، يرى أن مؤسسة الوسيط ليست مجرد صندوق شكاوى وطني، بل أداة لتصحيح المسار الإداري برمّته. في تصريح صحفي أكد ضرورة عقد اجتماعات منتظمة بين المؤسسة وباقي الإدارات العمومية، لأن العلاقة بين الإدارة والمواطن – كما قال – لا تُنظَّم فقط بالقوانين، بل أيضاً بالنية الحسنة.

النية، كما يعرف الجميع، ليست دائماً جزءاً من التكوين الإداري.

حسن طارق… رجل الوساطة بين المواطن والإدارة

وسيط المملكة، حسن طارق، بدا أكثر براغماتية حين تحدث أمام لجنة العدل والتشريع. الرجل يدرك أن التغيير لا يتم بخطابات، بل بحوارات ومقاربات جديدة. أعلن عن نية المؤسسة إطلاق حوار وطني حول المناصفة، وتنظيم تمثيليات جهوية لتقريب الوساطة من المواطنين، خصوصاً في المناطق التي تعتبر الشكوى ترفاً مدينياً.

طارق لخص المسألة بعبارة دقيقة، “الطلب على الوساطة بالمغرب لا يزال فعلاً حضرياً بامتياز”. بمعنى آخر، سكان المدن هم الذين يشتكون، بينما سكان القرى ما زالوا يعتقدون أن الشكوى للإدارة تشبه الكتابة إلى القدر.

بين البيروقراطية والوساطة: من يُقنع من؟

الخطاب الحكومي واضح: المزيد من التنسيق، والمزيد من التفاعل. لكن الواقع اليومي للإدارة المغربية لا يزال يسير بإيقاعه القديم: الملفات تُرحَّل، الردود تتأخر، والمواطن يشيخ وهو يطارد ختم توقيع.

في نهاية المطاف، تظل وساطة المملكة مشروعاً أخلاقياً قبل أن تكون مؤسسة. هي تذكير بأن الدولة الحديثة لا تُقاس بعدد القوانين، بل بسرعة الرد على بريد المواطنين.

ولعل أجمل ما في دعوة أخنوش الأخيرة أنها أعادت إلى النقاش العمومي سؤالاً بسيطاً ومحرجاً.

هل تحتاج الإدارة المغربية إلى وسيط… أم إلى مترجم يشرح لها معنى الإنصات؟

في المغرب، حين يرفع المواطن شكواه إلى الإدارة، قد يظن أنه كتب إلى جهة ما في السماء. وحين يتلقى الرد، بعد شهور، يكتشف أن السماء كانت أسرع.

ربما حان الوقت لكي تصبح الوساطة ليست فقط مؤسسة، بل ثقافة وطنية، تعلّم الإدارة أن المواطن ليس “مزعجاً”… بل السبب الوحيد لوجودها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com