المغرب يراجع بوصلته الاقتصادية: الحكومة تفتح صفحة جديدة مع “جيل زد” وتضع الصحة والتعليم في صدارة الأولويات

بوشعيب البازي

في تحول يُنذر بمرحلة مالية واجتماعية جديدة، أعلنت وزيرة الاقتصاد والمالية نادية فتاح العلوي أن الحكومة المغربية بصدد تعديل الموازنة العامة لمنح الأولوية المطلقة لقطاعي الصحة والتعليم، في استجابة مباشرة للمطالب الشبابية التي هزّت الشارع المغربي في الأسابيع الأخيرة.

لم تكن تلك التحركات مجرد موجة عابرة من الاحتجاج، بل كانت جرس إنذار اجتماعيًا أجبر الحكومة على إعادة النظر في أولوياتها، لتبدأ حوارًا صريحًا مع فئة الشباب التي باتت تُعرف إعلاميًا بـ“جيل زد” — الجيل الذي كبر في زمن الرقمنة لكنه يرفض العيش على هامش التنمية.

من الشارع إلى قاعة الاجتماعات

من الرباط إلى واشنطن، حملت الوزيرة المغربية رسائل واضحة: الإصلاح الاجتماعي لم يعد خيارًا بل ضرورة. ففي كلمتها خلال الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، قالت فتاح العلوي إن “ما سمعناه من احتجاجات الشبان هو أنهم يطالبون بتعليم وصحة أفضل”، مضيفة أن الإنفاق الحكومي على هذين القطاعين لا يتجاوز 9% من الناتج المحلي الإجمالي — نسبة تعتبر متواضعة بالنظر إلى حجم الانتظارات المجتمعية.

هذا الاعتراف العلني جاء بمثابة تأكيد رسمي لتحول في فلسفة الإنفاق العمومي، إذ كشفت الوزيرة أن الموازنة المقبلة ستُعيد ترتيب أولويات المشاريع، عبر تطوير المستشفيات المحلية وتشغيلها لتقريب الخدمات من المواطنين، والحد من معاناة سكان المناطق النائية الذين يضطرون لقطع مسافات طويلة لتلقي العلاج.

إصلاحات قصيرة الأمد… بنتائج ملموسة

بلهجة تجمع بين الواقعية والطموح، قالت فتاح العلوي إن الحكومة “ستُعيد تخصيص الأموال لتحقيق مكاسب قصيرة الأجل وسريعة، لأن الناس لا يمكنهم انتظار حدوث الإصلاح”. وأوضحت أن التفاصيل الدقيقة ستُعرض لاحقًا على البرلمان مع مناقشة مشروع قانون المالية، في نهاية أكتوبر الجاري.

لكن ما يميز هذا التوجه الجديد هو أنه ليس مجرد رد فعل سياسي، بل خطوة تندرج ضمن رؤية ملكية واضحة عبّرت عنها الوزيرة بقولها إن الموازنة المقبلة ستتضمن إجراءات لدعم مسعى الملك محمد السادس للحد من التفاوتات، خاصة في المناطق الجبلية والواحات التي طالها التهميش لعقود.

التنمية دون المساس بالتوازنات الكبرى

ورغم الطابع الاجتماعي للمشروع، شددت الوزيرة على أن الجهود الجديدة “لن تُضر بتوازنات الاقتصاد الكلي”، مؤكدة أن التركيز سيكون على الكفاءة وتنسيق الإنفاق العمومي بدل توسيعه بشكل غير منضبط.

هذا التصريح يعبّر عن توجه اقتصادي متزن يسعى إلى التوفيق بين مطلب العدالة الاجتماعية والحفاظ على مصداقية المغرب المالية في الأسواق الدولية.

سياسة نقدية تحت المجهر

وفي ما يخص مستقبل نظام الصرف، أكدت فتاح العلوي أن وزارتها تعمل أولاً على تحديد مستوى التضخم المستهدف بين 2 و3% في أفق 2026-2027، معتبرة أن تحرير سعر صرف الدرهم سيكون “خطوة لاحقة” تتطلب استعدادًا حقيقيًا من الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي لا تزال تواجه صعوبات بنيوية تمنعها من التكيّف مع نظام صرف مرن.

أما في ما يتعلق بتمويل الخزينة عبر السندات الدولية، فقد نفت الوزيرة وجود نية فورية للعودة إلى الأسواق، لكنها شددت على أن المغرب “سيواصل بانتظام إصدار السندات” ضمن استراتيجية تمويل منضبطة.

جيل جديد… وحكومة أمام اختبار الثقة

التحركات الشبابية الأخيرة، التي حملت شعارات تطالب بـ“الكرامة والتنمية والعدالة”، شكّلت لحظة فارقة في علاقة الدولة بمواطنيها الشباب. ومع دعوة رئيس الحكومة عزيز أخنوش إلى الحوار واعتراف وزيرة المالية بمشروعية المطالب، يبدو أن المغرب يسير نحو مصالحة اجتماعية جديدة أساسها الاستماع والإنجاز لا الوعود.

التحدي الآن، كما يراه المراقبون، ليس في صياغة الأرقام داخل قانون المالية، بل في ترجمة الوعود إلى نتائج ملموسة على الأرض. فجيل “زد” لا ينتظر الخطب ولا الشعارات، بل خدمات عمومية في المستوى، ومدارس بمستقبل، ومستشفيات بكرامة.

بقدر ما تُعبّر تصريحات نادية فتاح العلوي عن واقعية اقتصادية، فإنها تُترجم أيضًا بداية وعي حكومي بأن الاستقرار الاجتماعي لا يتحقق بالإنفاق الأمني بل بالاستثمار في الإنسان. وربما تكون هذه هي المرة الأولى التي يتقاطع فيها صوت الشارع مع صوت الموازنة، في اتجاه واحد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com