التحرش على “تيك توك”.. حين يتحول الفضاء الرقمي إلى سوق للمغازلة والانتهاك
بوشعيب البازي
في زمن صار فيه كل هاتفٍ نافذةً على العالم، تحوّل تطبيق “تيك توك” من منصة للترفيه والإبداع إلى فضاء يعجّ بأشكالٍ متباينة من السلوكيات غير الأخلاقية، أبرزها التحرش الإلكتروني الذي لم يعد يستهدف فقط الفتيات المراهقات أو المشهورات، بل تعدّى ذلك ليشمل نساء ورجالاً في سنٍّ متقدمة، وجدوا في المنصة ملاذاً لفت الانتباه أو بديلاً متأخراً عن الحياة الاجتماعية المفقودة.
من مقاطع الرقص إلى مشاهد الإغواء الرقمي
في بداياته، كان “تيك توك” يُعرف بمحتواه الخفيف: مقاطع رقص، وصفحات كوميدية، وتحديات شبابية عابرة. لكن خلال السنوات الأخيرة، تبدّل المشهد كلياً.
تحوّلت الكاميرا الأمامية إلى وسيلة إغواء، وأصبحت خوارزميات المنصة تُغذّي المحتوى المثير والمستفز أكثر من غيره، لأنّ ما يثير الفضول يجلب المشاهدات… وما يجلب المشاهدات يجلب الأرباح.
لم يعد التحرش فعلاً فردياً عابراً، بل ظاهرة ممنهجة، تعليقات بذيئة تحت بث مباشر، رسائل خاصة تحمل إيحاءات، ودعوات مموهة إلى محادثات “خاصة” خارج المنصة.
الضحية أحياناً امرأة في الخمسين من عمرها، تظهر في بثٍّ مباشر لتشارك رأياً أو قصة، فينقلب المشهد إلى حفلة سخرية وتعليقات فاحشة.
الوجهان المتقابلان للتحرش لكن الصورة ليست سوداء بالكامل على جانب واحد.
ففي المقابل، برزت فئة من النساء اللواتي يستعملن المنصة عمداً لاستقطاب الرجال، عبر بثوص مباشرة تتعمد الإثارة اللفظية أو الحركية، أو عبر التلميحات الجنسية المغلفة بخطاب “خفيف الظل”.
بعضهنّ وجدن في ذلك طريقاً مختصراً للشهرة أو لمداخيل مالية سريعة عبر الهدايا الافتراضية التي يقدّمها الرجال في البث المباشر.
المفارقة أن هؤلاء النساء، رغم تقديم أنفسهنّ كضحايا لاحقاً، يشاركن أحياناً في إعادة إنتاج ثقافة الإغواء الرقمي التي تضع أجسادهنّ تحت سلطة النظرات والتعليقات.
وهكذا، يتحول التحرش إلى لعبة اجتماعية مختلّة، رجال يبحثون عن متعة لحظية خلف الشاشة، ونساء في عمر الأمهات يبعن الوهم ذاته الذي كنّ ينتقدنه يوماً.
جيل متأخر في زمن سريع
الملاحَظ أن هذه الظاهرة لم تعد حكراً على المراهقين. اللافت أن الفئة العمرية المتأخرة – ما بين 40 و60 سنة – أصبحت الأكثر نشاطاً في هذه المساحات الافتراضية.
رجال فقدوا حضورهم في الواقع الاجتماعي، ونساء يبحثن عن اعتراف متأخر أو عن دفءٍ مفقود، وجدوا في “تيك توك” مساحةً للتعبير، لكن أيضاً ساحة لتبادل التودد والابتزاز والمشاعر المؤقتة.
خلف كل بث مباشر، هناك وحدة. وخلف كل تعليق متحرش، هناك فراغ.
إنها صورة مؤلمة لمجتمع يعيش عطشاً عاطفياً لا يُروى في الواقع، فيبحث عن بدائله في العالم الافتراضي.
التحرش كمرآة للعزلة
ما يجري على “تيك توك” ليس مجرد انفلات أخلاقي؛
إنه انعكاس لعزلةٍ اجتماعية عميقة يعيشها جيل من الرجال والنساء في منتصف العمر، بعد أن تغيّرت أشكال العلاقات وتبدّلت أدوار التواصل.
فمن كان يخشى التحدث في المقاهي أو المناسبات، أصبح يجد في الشاشة مساحة للتجرؤ والاعتراف… وأحياناً، للتجاوز والانتهاك.
التحرش الرقمي هنا ليس تعبيراً عن رغبة جنسية فقط، بل صرخة وجودٍ في عالمٍ لم يعد يُنصت.
غياب الرقابة وازدواجية القيم
المؤسف أن القوانين المغربية والعربية عامة ما تزال عاجزة عن ضبط هذا الفضاء الجديد، إذ يصعب إثبات التحرش في بيئة افتراضية عابرة، كما أن ثقافة التبليغ ضعيفة، والخوف من الفضيحة أقوى من الرغبة في العدالة.
في المقابل، تتساهل المنصات نفسها في مراقبة هذا المحتوى لأنها مستفيدة من نسب المشاهدة العالية. أما المجتمع، فيمارس ازدواجية أخلاقية فجة:
ينتقد النساء اللواتي يظهرن على الكاميرا، لكنه يتابعهن في الخفاء ويغذي خوارزمياتهن بالمشاهدات والهدايا.
بين القانون والأخلاق: ضرورة التربية الرقمية
لم يعد كافياً أن نحذر أبناءنا من خطر الإنترنت. اليوم، الجيل الذي يحتاج التربية الرقمية هو جيل الآباء أنفسهم.
الرجال والنساء الذين تجاوزوا مرحلة المراهقة منذ عقود، عادوا إليها رقمياً، دون وعيٍ أو ضوابط. التحرش الإلكتروني لا يُحارَب فقط بالقانون، بل بثقافةٍ جديدة تُعيد تعريف الكرامة في الفضاء الرقمي. ثقافة تذكّر أن الحرية لا تعني الابتذال، وأن التعبير لا يبرر التعدي، وأن المنصة ليست بديلاً عن الحياة.
مجتمع أمام مرآته الافتراضية
ظاهرة التحرش على “تيك توك” ليست سوى انعكاسٍ لمجتمعٍ يعيش صراعاً بين القيم القديمة وإغراءات الحداثة الرقمية. رجال ونساء في سنّ متأخر، يحاولون أن يعيشوا ما فاتهم، أو أن يثبتوا أنهم ما زالوا مرئيين، ولو عبر شاشة هاتف.
لكن النتيجة غالباً واحدة: تشييء متبادل، وإدمان على الظهور، وفراغ لا يملؤه سوى مزيد من الوهم. لقد أصبح “تيك توك” اليوم مرآة حقيقية لواقعٍ اجتماعي مأزوم: كلٌّ يبحث عن حبٍّ متأخر، فيجد بدله نظرة عابرة وتعليقاً جارحاً.