الكرامة الدبلوماسية على بوابة باريس… حين تخلع الجزائر معطفها الرسمي!

بوشعيب البازي

مشهد لم يكن أحد يتوقعه، ولا حتى في أكثر الكوابيس بيروقراطية.

وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف، رفقة الوزير المنتدب لطفي بوزيد، يقفان في مطار شارل ديغول بالعاصمة الفرنسية ينزعان المعطف والحزام والحذاء والجوارب، تحت أنظار عناصر الأمن الفرنسي، الذين تعاملوا معهما كما لو كانا “مسافرين عاديين من الدرجة الاقتصادية”، وليس حاملين لجوازيهما الدبلوماسيين.

مشهد يُختصر في جملة واحدة: الدبلوماسية الجزائرية وصلت إلى مرحلة التفتيش اليدوي.

بين المعطف والسيادة

قد يرى البعض أن الأمر إجراء روتيني في مطارات أوروبا، حيث لا أحد فوق القانون الأمني. لكن في لغة البروتوكول الدبلوماسي، لا شيء يُترك للصدفة.

حين يُطلب من وزير خارجية دولة أن يخلع جواربه في عاصمةٍ كان يفترض أنه “شريك استراتيجي” لها، فالأمر لا يتعلق بالتفتيش بل بإرسال رسالة مضمونة الوصول:

“مرحبا بكم في أوروبا… هنا لا تُقبل الشعارات السيادية على الطائرات.” لقد اعتادت الجزائر أن ترفع خطاب “العزة والكرامة” في الإعلام المحلي، وأن تصف فرنسا تارة بـ “الاستعمار القديم”، وتارة بـ “الشريك الأبدي”.

لكن يبدو أن باريس هذه المرة قررت أن تضع النقاط على الجوارب قبل الحروف.

تفتيش الكرامة الوطنية

في فيديو غير مصوّر لكنه محفور في الخيال الشعبي، يمكن تخيّل عطاف وهو يمدّ يديه لتفتيش “الحقائب الشخصية”، بينما يردد في نفسه خطب قصر المرادية عن “السيادة الوطنية التي لا تُمسّ”.

أما لطفي بوزيد، فقد ربما حاول أن يشرح لموظف الأمن أنه “وزير”، لكن الأخير اكتفى بابتسامة باريسية جامدة، كما لو أنه يقول:

“الكل سواء أمام أجهزة الكشف، حتى لو كان يحمل حقيبة دبلوماسية من صنع المرادية.”

المشهد عبثي، لكنه كاشف.

إنها لحظة الحقيقة التي تسقط فيها الأقنعة البروتوكولية، وتظهر حقيقة الوزن السياسي لدولةٍ اعتادت أن تتحدث بصوت أعلى من حجمها الدبلوماسي.

من “فرنسا العدوة” إلى “فرنسا التي تفتش الوزراء”

المفارقة أن النظام الجزائري الذي لا يملّ من مهاجمة فرنسا في خطاباته، لا يجد غضاضة في إرسال وزرائه إلى باريس للتفاوض أو “طلب الرضا”.

لكن عندما يتحول الرضا إلى تفتيش أمني دقيق، يدرك الجميع أن العلاقات ليست “شراكة” بقدر ما هي علاقة تبعية مغلفة بالشعارات.

فرنسا تعرف تماماً مع من تتعامل، وتعرف أيضاً أن الرد الجزائري لن يتعدى تصريحاً خافتاً في وكالة أنباء رسمية، يتحدث عن “سوء تفاهم بروتوكولي”.

لكن الشعور بالإهانة، تلك التفاصيل الصغيرة التي لا تُقال، سيبقى عالقاً في ذاكرة الوفد الوزاري، وفي ذاكرة الجزائريين الذين شاهدوا دولتهم تُعامل كأي مسافر عادي قادم من بلدٍ غير مصنّف دبلوماسياً.

السيادة على الورق… والنعال في المطار

ليست المشكلة في نزع الحذاء، بل في نزع الهيبة. فالدبلوماسية التي لا تُحترم عند البوابة لا يمكنها أن تفرض احترامها في القاعة المغلقة.

وعندما يتحول جواز السفر الدبلوماسي إلى مجرد وثيقة بلا قيمة أمام شرطي فرنسي، فذلك يعني أن “السيادة الوطنية” لم تعد سوى شعارٍ للتداول المحلي، يُرفع في الخطب ويُسقط في الممرات الدولية.

لقد أراد عطاف أن يمرّ إلى باريس كوزير، فمرّ كمواطن. وأرادت الجزائر أن تثبت استقلال قرارها، فثبت فقط أنها لا تملك حتى حصانة لحقائب وزرائها.

الكرامة التي في الحذاء

قد يخرج بيان رسمي لاحقاً يصف ما حدث بأنه “إجراء عادي”، لكنّ الحقيقة الساخرة تقول إن كرامة الأنظمة لا تُختبر في خطب الجمعة ولا في نشرات الأخبار، بل في المطارات.

وفي مطار شارل ديغول، لم يسقط فقط معطف أحمد عطاف، بل سقطت معه كل شعارات السيادة الوهمية التي تُخاطب بها الجزائر الداخل، بينما تقف منزوعة الكبرياء في الخارج.

باريس لم تفتش الأجساد بل الخطاب

الحادثة، رغم طابعها المهين، ليست إلا مرآة.

فرنسا لم تُهِن الوزيرين بقدر ما عرّت الخطاب الجزائري الرسمي الذي يعيش على مفارقة “العداء-الارتهان”. فالذين يتحدثون عن “فرنسا الاستعمارية” في نشراتهم، هم أنفسهم الذين يهرولون إلى مطاراتها طلبًا للعبور والاعتراف. أما التفتيش في حد ذاته، فهو ليس أمنياً فحسب، بل سياسياً:ًباريس أرادت أن تقول للمرادية: “نحن نفتشكم كما نفتش أي مسافر… لأنكم ببساطة لستم أكثر من مسافرين.”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com