بين نجاحات المغرب وتوجس النظام الجزائري
في خضم التحولات المتسارعة التي يعرفها المشهد المغاربي، يبرز اسم وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة كأحد أكثر الوجوه السياسية حضورًا وتأثيرًا في شمال إفريقيا.
فمنذ توليه حقيبة الخارجية سنة 2017، قاد بوريطة دبلوماسية مغربية هجومية، هادئة في شكلها، لكنها عميقة في أثرها، أعادت رسم موقع المملكة على الخارطة الإقليمية والدولية.
لكن هذه النجاحات، التي حصدت للمغرب احترامًا واسعًا وتقديرًا متزايدًا من القوى الكبرى، تحوّلت في المقابل إلى هاجس مزمن للنظام الجزائري، الذي وجد نفسه أمام مشهد دبلوماسي جديد، لا يملك فيه إلا ردود فعل غاضبة وبيانات عدائية.
دبلوماسية بوريطة: ثبات في المبدأ ومرونة في التحرك
منذ البداية، بنى ناصر بوريطة مقاربته على مبدأين:
- ثبات المغرب في قضاياه الوطنية، وعلى رأسها ملف الصحراء المغربية،
- ومرونة التحرك في محيط متقلب، حيث تتغير التحالفات والمصالح بسرعة غير مسبوقة.
تحت قيادته، انتقل المغرب من موقع الدفاع إلى موقع الفعل والتأثير.
ففي إفريقيا، عزز حضور الرباط داخل الاتحاد الإفريقي بعد عودتها إليه سنة 2017، وبنى شراكات اقتصادية وأمنية متقدمة مع دول الساحل وغرب إفريقيا.
وفي العالم العربي، استطاع المغرب أن يكون صوتًا عقلانيًا في ملفات معقدة مثل الأزمة الليبية أو الفلسطينية.
أما على الصعيد الدولي، فقد تميّزت الدبلوماسية المغربية بالبراغماتية والوضوح، ما جعل المملكة تحصد دعمًا متزايدًا لمبادرتها المتعلقة بالحكم الذاتي في الصحراء.
الاعتراف الأمريكي نقطة التحول الكبرى
لم يكن حدث اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2020 بسيادة المغرب على صحرائه مجرد انتصار دبلوماسي عابر، بل تحولًا استراتيجيا أعاد ترتيب موازين القوة في المنطقة المغاربية.
وقد كان بوريطة، ببرودة أعصابه ودقّة تحركاته، أحد مهندسي هذا المسار. تبع ذلك دعم واضح من دول عربية مؤثرة، ثم مواقف أوروبية متقدمة، مثل إسبانيا، ألمانيا، فرنسا، والمملكة المتحدة، وكلها تبنّت موقفًا داعمًا لمبادرة الحكم الذاتي كحل واقعي للنزاع.
في المقابل، وجدت الجزائر نفسها في عزلة متزايدة، بعدما فقدت روايتها التقليدية صداها الدولي. وهنا تحديدًا، بدأت عقدة بوريطة في الظهور داخل دوائر القرار والإعلام الجزائري.
بين الدبلوماسية والعصبية: عقدة الجزائر من بوريطة
لا يكاد يمر تصريح أو نشاط رسمي لناصر بوريطة دون أن ترد عليه الجزائر بردّ متشنج، أو بيان متسرع من وزارة خارجيتها.
حتى في المنتديات الدولية، تحرص البعثة الجزائرية على الرد على تصريحات الوزير المغربي، في مشهد بات يثير سخرية المراقبين أكثر مما يعبّر عن موقف سياسي متماسك.
يرى المحللون أن هذه “الحساسية المفرطة” تجاه بوريطة تعود إلى نجاحه في كسر أحد التابوهات المغاربية القديمة:
فقد استطاع أن يحوّل الدبلوماسية المغربية إلى مدرسة مستقلة، لا تقوم على رد الفعل، بل على المبادرة، في وقت ما زالت الدبلوماسية الجزائرية رهينة خطابات الحرب الباردة ومفردات “الثورة والتحرر”.
وفي العمق، تكشف “عقدة بوريطة” عن عقدة أعمق لدى النظام الجزائري:
عقدة الفاعلية المغربية في محيطها، مقابل عجز الجزائر عن تحويل ثروتها النفطية إلى نفوذ سياسي أو اقتصادي حقيقي.
من إفريقيا إلى أوروبا.. بصمة مغربية واضحة
تحت إشراف بوريطة، تحولت الرباط إلى مركز توازن بين العواصم الكبرى. ففي إفريقيا، رسّخ المغرب حضوره الاقتصادي والأمني، وأطلق مشاريع استراتيجية ضخمة مثل أنبوب الغاز نيجيريا – المغرب، الذي سيغير ملامح الطاقة في القارة. وفي أوروبا، نجح في إعادة الدفء إلى العلاقات مع مدريد وبرلين وباريس، رغم التوترات الظرفية.
أما في الشرق الأوسط، فتمكّن المغرب من بناء علاقات متقدمة مع دول الخليج، مع الحفاظ على استقلالية قراره السياسي.
هذه المقاربة جعلت من بوريطة رمزا للدبلوماسية الهادئة والفعالة، وهي سمة تثير حنق القيادة الجزائرية التي فشلت في تحقيق إنجاز مماثل رغم وفرة الموارد.
الدبلوماسية الجزائرية في مأزق المقارنة
في مقابل هذه النجاحات، تبدو الدبلوماسية الجزائرية في مأزق مزمن.
فبينما تتحرك الرباط بثقة على الساحة الدولية، تنغلق الجزائر أكثر فأكثر في خطاب عدائي، يختزل السياسة الخارجية في مواجهة المغرب فقط.
ولعل أكثر ما يزعج صناع القرار في قصر المرادية هو أن بوريطة استطاع أن يسحب البساط من تحت أقدامهم بهدوء، دون شعارات ولا ضجيج إعلامي.
ففي الوقت الذي تراهن فيه الجزائر على تحالفات متقلبة مع روسيا أو إيران أو فنزويلا، يرسخ المغرب حضوره في المنظمات الأممية، ويعزز موقعه كشريك موثوق لدى أوروبا والولايات المتحدة وأفريقيا.
عقدة الاعتراف لا عقدة الأشخاص
ليست “عقدة الجزائر من بوريطة” مسألة شخصية بقدر ما هي رمزية سياسية. فالوزير المغربي أصبح مرآة تعكس نجاح نهج دبلوماسي متزن، مقابل ارتباك في الرؤية الجزائرية.
وبينما يمضي المغرب في توسيع تحالفاته وفتح قنصليات جديدة في الصحراء، تزداد عزلة النظام الجزائري، الذي يجد نفسه مضطرا للرد على كل تحرك مغربي وكأنه طعنة في كبريائه السياسي.
لقد أصبح ناصر بوريطة، دون أن يسعى لذلك، رمزا لدبلوماسية مغربية حديثة وناجحة، ودليلا على أن الفاعلية لا تحتاج إلى الشعارات، بل إلى رؤية واضحة، وثقة في النفس، وإيمان بعدالة القضية.
أما في الجزائر، فستظل المقارنة مؤلمة ما دام الخطاب يتغذى من عقدة الماضي، لا من منطق المستقبل.