حين تصبح الدبلوماسية رهينة الانتماء الحزبي: دعوة إلى تجديد النخبة الدبلوماسية المغربية

بقلم: بوشعيب البازي

في زمن التحولات الجيوسياسية المتسارعة، لم يعد مسموحاً للدبلوماسية المغربية أن تبقى رهينة الانتماءات الحزبية أو العلاقات الشخصية. فالمملكة، التي راكمت خبرة دبلوماسية رفيعة تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس، تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى نخب مهنية جديدة، تمتلك من الكفاءة والقدرة على التأثير ما يؤهلها لحمل صوت المغرب الحقيقي في العالم.

ورغم الجهود الكبيرة التي تبذلها وزارة الشؤون الخارجية بقيادة ناصر بوريطة لإعادة الانضباط والاحترافية إلى السلك الدبلوماسي، فإن بعض التمثيليات المغربية في الخارج لا تزال ترزح تحت تأثير ما يمكن وصفه بـ”الجمود الحزبي”، حيث ما زال عدد من السفراء المحزبين في مناصبهم منذ أكثر من تسع سنوات، دون تقييم فعلي لأدائهم أو تجديد للدماء داخل هذه البعثات.

دبلوماسية الولاءات بدل دبلوماسية الكفاءات

لطالما شكلت الدبلوماسية المغربية أحد أعمدة السياسة الخارجية للمملكة، خصوصاً في الدفاع عن القضية الوطنية الأولى، الصحراء المغربية. غير أن اختراق بعض المواقع الدبلوماسية من طرف وجوه حزبية جعل الولاء الحزبي أحياناً يعلو على الولاء للوطن، وحوّل بعض السفارات إلى فضاءات مغلقة تدور في فلك الانتماء السياسي أكثر مما تنخرط في تحقيق الأهداف الاستراتيجية للمغرب.

هذا الوضع لم يعد مقبولاً، خصوصاً في ظل نجاح الدبلوماسية المغربية خلال السنوات الأخيرة في تحقيق اختراقات مهمة في إفريقيا، وأوروبا، وأمريكا اللاتينية. إذ لا يمكن أن تواكب هذه النجاحات بمنظومة تمثيلية يغلب عليها الركود والولاء الحزبي.

سفراء الأحزاب… نهج الفساد يتمدد في المغرب

لقد تحوّل بعض السفراء المحسوبين على أحزاب معينة إلى رموز لنهجٍ مقلقٍ من الفساد الإداري والسياسي المقنّع داخل البعثات الدبلوماسية. فبين من استغل موقعه لتوسيع نفوذه الشخصي أو الحزبي، ومن تعامل مع مهامه الخارجية كامتياز اجتماعي أكثر منه مسؤولية وطنية، ضاعت الرسالة الحقيقية للدبلوماسية المغربية، خدمة الوطن أولاً وأخيراً.

إن بقاء بعض هؤلاء في مناصبهم لأكثر من تسع سنوات، دون محاسبة أو تقييم مهني، يكشف عن خللٍ هيكلي في آليات المراقبة والتقييم داخل وزارة الخارجية. فالتمثيلية الدبلوماسية ليست مدى الحياة، بل مسؤولية مؤقتة تُقاس بنتائجها، لا بطول مدتها.

وفي الوقت الذي يتجدد فيه دماء المسؤولين الأمنيين والإداريين في الداخل، تبدو بعض السفارات وكأنها جزرٌ معزولة خارج الزمن المغربي الجديد، تتعايش مع الروتين وتعيد إنتاج نفس الخطاب الذي تجاوزه الواقع.

حين تتضرر صورة المغرب من ضعف التمثيل

لا يمكن إغفال أن ضعف أداء بعض الممثليات المغربية بالخارج انعكس سلباً على صورة المغرب، سواء وسط الجاليات المغربية أو في المحافل الدولية. فقد تحوّل بعض السفراء إلى شخصيات بروتوكولية، تكتفي بالمناسبات الرسمية والزيارات الشكلية، دون أي مبادرة حقيقية للدفاع عن المصالح الوطنية أو جذب الاستثمارات أو شرح مواقف المغرب بعمق ومسؤولية.

المغرب اليوم في حاجة إلى دبلوماسيين يفكرون ويشتغلون بعقل الدولة لا بعقل الحزب. وإلا فإن جهود وزارة الخارجية ستظل تصطدم بجدار من اللامبالاة والجمود داخل بعض الممثليات.

بوريطة أمام مسؤولية الإصلاح

يدرك وزير الخارجية ناصر بوريطة حجم التحديات، ويعرف جيداً أن إصلاح السلك الدبلوماسي لا يمكن أن يتحقق دون تطهير حقيقي من إرث المحسوبية الحزبية، وإعادة هيكلة التمثيليات على أساس الكفاءة لا الانتماء.

تغيير السفراء المحزبين ليس فقط مطلباً إدارياً، بل هو ضرورة وطنية لإعادة الثقة في الدبلوماسية المغربية وتكريس صورة دولة المؤسسات لا دولة الولاءات. فالمناصب الدبلوماسية ليست مكافأة على الولاء الحزبي، بل مسؤولية تمثيل بلد عريق بعمقه التاريخي والسياسي.

الدبلوماسية المغربية تستحق الأفضل

لقد آن الأوان لطي صفحة المحسوبية داخل السلك الدبلوماسي، والانتقال إلى مرحلة جديدة قوامها الاحترافية والشفافية والمحاسبة. فالمغرب الذي يخوض معارك دبلوماسية كبرى لا يمكن أن يُمثَّل بوجوهٍ متعبةٍ من الماضي، بل بحاجة إلى نخب جديدة تحمل روح الدولة الحديثة.

فمن يخدم علم المغرب يجب أن يخدمه بالكفاءة، لا بالانتماء. ومن يرفع شعار “المصلحة الوطنية” يجب أن يجسّدها في كل تصرف، لا أن يتاجر بها من خلف المكاتب الدبلوماسية.

الدبلوماسية المغربية تستحق الأفضل، والمغاربة يستحقون أن يُمثَّلوا في الخارج بوجوهٍ تليق بوطنهم، لا بأحزابهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com