الولايات المتحدة تفرض إيقاع الحل في الصحراء: الجزائر أمام اختبار الواقعية والمغرب في موقع قوة
بوشعيب البازي
منذ أن نشرت صحيفة إل كونفيدونسيال الإسبانية تقريريْ الصحافي المخضرم إيغناسيو سمبريرو حول مساعي إدارة دونالد ترامب السابقة لإغلاق ملف الصحراء نهائيًا، عاد النقاش الدولي حول هذا النزاع المزمن إلى واجهة الأحداث، ولكن هذه المرة على إيقاع جديد، إيقاع أمريكي يرسم ملامح تسوية نهائية تُبنى على مقترح الحكم الذاتي المغربي، وتغلق نهائيًا باب ما يسمى بـ”تقرير المصير” الذي ظل شعارًا بلا مضمون طيلة خمسة عقود.
تقرير سمبريرو، الذي حمل عنوانًا ذا دلالة رمزية “Pax Trumpiana” (السلام على الطريقة الترامبية)، يكشف عن خطة متكاملة أعدّتها واشنطن ونسقتها مع حلفائها الأوروبيين، وتحديدًا فرنسا، لفرض تسوية نهائية بين المغرب والجزائر، تقوم على تثبيت الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، ودفن مشروع الانفصال الذي لم يعد يحظى بأي سند واقعي أو قانوني.
واشنطن تغيّر قواعد اللعبة
بحسب الوثائق التي أشار إليها الصحافي الإسباني، فقد أعدّت الولايات المتحدة مشروع قرار أوليًّا موجّهًا إلى مجلس الأمن الدولي، يدعو إلى “بدء مفاوضات دون شروط مسبقة على أساس مقترح الحكم الذاتي المغربي”، ويصفه بأنه “الخطة الوحيدة الجدية والواقعية والقابلة للتطبيق”.
القرار، الذي ساهمت فرنسا في صياغته، سيُعرض للتصويت في 30 أكتوبر، وقد أشار سمبريرو إلى أن روسيا هي الدولة الوحيدة القادرة على عرقلته باستخدام حق النقض (الفيتو). لهذا، لم يكن من المستغرب أن يسافر وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة إلى موسكو في محاولة لإقناع نظيره سيرغي لافروف بالامتناع عن التصويت.
لكنّ لغة النص الأمريكي كانت واضحة: واشنطن لم تعد تتحدث عن “نزاع إقليمي” بل عن “تسوية ضرورية” تحت قيادة الرئيس الأمريكي، الذي يسعى إلى تكريس نفسه كـ”صانع سلام” بعد تجاربه السابقة في غزة وأرمينيا. وتؤكد الصياغة على أن “مجلس الأمن يعرب عن ارتياحه لقيادة الرئيس ترامب في حل النزاع في الصحراء الغربية”.
من الاعتراف إلى فرض الحل
لا يمكن فهم التحرك الأمريكي بمعزل عن التحول الذي أطلقه ترامب نفسه في ديسمبر 2020، حين اعترف رسميًا بسيادة المغرب على الصحراء. ذلك القرار التاريخي، الذي تبنّاه لاحقًا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في يوليو 2024، شكّل الأساس لما يمكن اعتباره “المسار الغربي الجديد” في التعامل مع هذا النزاع. اليوم، يبدو أن واشنطن تريد أن تنتقل من مرحلة الاعتراف إلى مرحلة الفرض، أي فرض حلٍّ نهائيٍّ يطوي صفحة واحدة من أطول النزاعات في أفريقيا.
وبحسب سمبريرو، فإن الإدارة الأمريكية تسعى إلى إنجاز اتفاق قبل نهاية العام الحالي، على أن تمتد ولاية بعثة “المينورسو” لستة أشهر فقط، بدلًا من عام، لإجبار الأطراف على الالتزام بإطار زمني محدد. في حال فشل المفاوضات، قد تفكر واشنطن في سحب البعثة نهائيًا، ما سيعني عمليًا نهاية “الوساطة الأممية” التقليدية وبداية مرحلة الحل السياسي المباشر.
الجزائر في موقف دفاعي
التحرك الأمريكي أربك حسابات الجزائر، التي كانت تراهن على توازن القوى في مجلس الأمن وعلى الدعم الروسي لتأجيل أي تغيير في المقاربة الدولية. غير أن الواقع الجيوسياسي الجديد يجعل الجزائر في موقع دفاعي. فمع أزمتها الاقتصادية المتفاقمة وتراجع نفوذها الإقليمي في الساحل، لم تعد تملك هامش المناورة نفسه الذي كانت تتكئ عليه خلال العقدين الماضيين.
وتحاول الجزائر، حسب مصادر دبلوماسية، إدخال تعديلات على مشروع القرار الأمريكي تتضمن اشتراط اعتراف المغرب نهائيًا بالحدود الجزائرية، في محاولة لإغلاق ملف “الصحراء الشرقية”، وهو مطلب تعتبره الرباط خارج النقاش تمامًا. كما تضغط الجزائر لإشراك روسيا بشكل أعمق في الملف، في وقت يعرف فيه التعاون العسكري بين البلدين فتورًا بسبب التنافس في مالي والنيجر.
لكنّ المغرب، من جهته، يرفض تمامًا الخوض في أي نقاش حول الحدود أو الصحراء الشرقية، مؤكّدًا أن النزاع الوحيد المطروح على الطاولة هو نزاع الصحراء المغربية، الذي له مسار واضح في الأمم المتحدة يقوم على مبادرة الحكم الذاتي لسنة 2007.
المغرب بين الدبلوماسية والواقعية
في المقابل، يتحرك المغرب بثقة محسوبة. فبعد سلسلة من الانتصارات الدبلوماسية التي تجسدت في افتتاح أكثر من 30 قنصلية في العيون والداخلة، وتعزيز علاقاته الاستراتيجية مع واشنطن وباريس ومدريد، باتت الرباط في موقع المبادِر لا المنتظر.
ويقرأ المتتبعون في هذه التطورات تتويجًا لسياسة دبلوماسية طويلة النفس انتهجها المغرب منذ عقدين، تقوم على مبدأ “الشرعية بالإنجاز”، أي ترجمة الموقف القانوني والسيادي إلى واقع تنموي ملموس في الأقاليم الجنوبية. بينما تواصل الجزائر دعم “جبهة البوليساريو” التي تحولت، وفق تقارير أمنية غربية، إلى كيان فاقد للقدرة السياسية والعسكرية، يسعى اليوم للعودة إلى طاولة التفاوض من موقع ضعف، لا من موقع الندية.
ما بعد أكتوبر: مرحلة الحسم
إن اعتماد مشروع القرار الأمريكي – إذا تم – سيشكّل نقطة تحوّل حقيقية في مسار القضية. فهو لا يكرّس فقط أسبقية المقاربة المغربية، بل يفتح الباب أمام إعادة تعريف دور الأمم المتحدة في المنطقة. فالمجتمع الدولي، الذي انشغل طويلاً بإدارة الأزمة، يبدو اليوم مستعدًا لإنهائها، بما يخدم استقرار شمال أفريقيا وأوروبا على السواء.
لقد تغيّر العالم، ولم يعد هناك مكان لنزاعات مفتوحة تستنزف الطاقات وتعطل التنمية. والجزائر اليوم أمام اختبار تاريخي: إما القبول بالواقعية السياسية والانخراط في مسار التسوية، أو البقاء أسيرة سردية الحرب الباردة التي لم يعد أحد يؤمن بها.
أما المغرب، فقد كسب رهانه: بالحكمة والدبلوماسية لا بالسلاح. وحين يجلس التاريخ ليكتب فصول هذه المرحلة، سيسجل أن الرباط لم تنتصر فقط في معركة الصحراء، بل في معركة الشرعية والواقعية.