الجزائر تدفع البوليساريو إلى الواجهة… والقلق يتسرّب قبل قرار مجلس الأمن: حين يواجه الوكيل مأزق الموكّل
بوشعيب البازي
قبل أيام قليلة من تصويت مجلس الأمن على قراره الجديد بشأن الصحراء المغربية، تحاول الجزائر عبثاً تدوير الزوايا وتجميل المأزق عبر «مناورة اتصالية» مكشوفة، دفعت خلالها جبهة البوليساريو إلى إرسال ما سمّي «مقترحاً موسعاً» إلى الأمين العام للأمم المتحدة، قبل أن تفتح لها السجاد الأحمر لتقديم «جوهره» من العاصمة الجزائرية. هذا المشهد لا يعكس انفتاحاً ولا مرونة كما روّج له الإعلام الرسمي الجزائري، بل يعكس حالة قلق سياسي حقيقي، مع إدراك متزايد في أروقة الحكم بأن مجلس الأمن يستعد لتكريس مبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد وواقعي للنزاع.
«مقترح موسع» بلا مضمون
في العشرين من أكتوبر، أرسلت البوليساريو رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، تحدثت فيها عن «حل سياسي متوافق عليه يضمن حق تقرير المصير للشعب الصحراوي». لكن مضمون الرسالة، كما لاحظه دبلوماسيون في نيويورك، لم يحمل أي جديد، سوى إشارات مبهمة عن «الاستعداد لتقاسم كلفة السلام». التوقيت لم يكن بريئاً: عشرة أيام فقط تفصل بين الرسالة وبين التصويت المنتظر في مجلس الأمن، ما يكشف عن ارتباك في توقيت المناورة أكثر من اتزان في مضمونها.
وراء هذا الحراك، تكمن محاولة جزائرية لتشويش مسار القرار الأممي، وخلط الأوراق في لحظة حساسة يتجه فيها الإجماع الدولي نحو دعم المقترح المغربي للحكم الذاتي كإطار واقعي ووحيد للحل. غير أن ما أعدّ في الجزائر وسُوّق باسم البوليساريو لم يكن سوى نص مرتجل، يفتقر إلى الاتساق السياسي والمرجعية القانونية، الأمر الذي جعل المبادرة تنقلب إلى دليل على الارتباك أكثر منها علامة على المبادرة.
دبلوماسية على الطريقة الجزائرية: الصخب بدل الرؤية
في الثاني والعشرين من أكتوبر، استضافت الجزائر مؤتمراً صحافياً لممثل البوليساريو محمد يسلم بيسط، الذي قدّم نفسه كـ«وزير للخارجية والشؤون الإفريقية». الرجل، المعروف في الأوساط الدبلوماسية الإفريقية بحدة لسانه وسلوكه غير المتزن، عاد ليقدّم عرضاً أقرب إلى الاستعراض منه إلى الدبلوماسية. فبدلاً من عرض رؤية سياسية قابلة للنقاش، أعاد بيسط تكرار العبارات المعتادة حول «رفض الحلول المفروضة» و«حق تقرير المصير»، قبل أن يفاجئ الحضور بإشارة غامضة إلى أن «المقترح الموسع» يشمل احتمال «الاندماج في المغرب»، وهي عبارة غير مسبوقة في الخطاب الانفصالي.
رغم حذف هذا المقطع من تغطية الإعلام الجزائري، إلا أن بيسط بدا متردداً ومرتبكاً، كمن يختبر لغة جديدة فُرضت عليه من دون اقتناع. هذا الارتباك لا يخص شخصه فقط، بل يعكس مأزقاً أعمق: إدراك الجزائر أن معادلة «تقرير المصير» لم تعد تجد لها صدى في الساحة الدولية، وأن خيار الانفصال فقد آخر أنصاره خارج الفضاء الجزائري – الفنزويلي – الكوبي التقليدي.
الولايات المتحدة تعيد رسم الإطار
تؤكد مصادر دبلوماسية في نيويورك أن مشروع القرار الأميركي الجديد، الذي سيُعرض للتصويت نهاية أكتوبر، ينصّ بوضوح على اعتبار مبادرة الحكم الذاتي المغربية «الأساس الأكثر جدية ومصداقية وواقعية» للحل، ويدعو إلى استئناف المفاوضات «دون تأخير» بين المغرب والجزائر وموريتانيا والبوليساريو، على قاعدة المقترح المغربي وحده. هذا التحول النوعي يعبّر عن قناعة أميركية راسخة بأن الزمن لم يعد يسمح بمزيد من الدوران في حلقة النزاع المفتعل.
واشنطن، وفق الصيغة النهائية للمشروع، تستعد لاحتضان الجولة المقبلة من المشاورات، في خطوة تُقرأ كرسالة واضحة للجزائر بأن المجتمع الدولي يتعامل معها، لا مع وكيلها، بوصفها الطرف الحقيقي في النزاع. كما يتحدث نص القرار عن «اتفاق سلام» مبدئي قد يُوقّع خلال الستين يوماً التالية لاعتماده، ما يعني أن نافذة المناورة بدأت تضيق بسرعة أمام صناع القرار في الجزائر.
خطاب مكرور لإخفاء الذعر
في مواجهة هذا المنعطف، لجأت الجزائر إلى خطابها التقليدي. الرئيس عبد المجيد تبون أعاد في خطابه الأخير التأكيد على أن بلاده «لن تتخلى عن دعمها» للانفصاليين، وأنها «ترفض أي حل مفروض». غير أن هذه اللغة التي تكررت عشرات المرات لم تعد قادرة على إخفاء التناقض بين الشعارات والواقع. فكلما تقدم الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء، تراجعت قدرة الجزائر على تبرير تمسكها بمشروع انفصالي يتهاوى أمام منطق السيادة والتنمية والاستقرار.
أما بيسط، الذي حاول أن يضيف إلى لغته بعض العبارات الإنشائية عن «السلام الحقيقي» و«رفض المؤامرات»، فقد انتهى به الأمر إلى مهاجمة المجتمع الدولي بأسره، وخاصة الولايات المتحدة، متهماً إياها بالانحياز للمغرب. كان خطابه انعكاساً لحالة من الغضب والعجز أكثر منه تعبيراً عن موقف سياسي.
الجزائر أمام اختبار الحقيقة
يبقى السؤال الجوهري: ماذا بعد؟ فمع اقتراب لحظة التصويت، يدرك الجميع أن القرار المقبل سيضع الجزائر أمام مسؤولياتها كطرف رئيسي في النزاع. لم يعد ممكناً الاختباء خلف واجهة البوليساريو، ولا الادعاء بأنها «مجرد مراقب». الرسائل الأميركية والأوروبية، من واشنطن إلى بروكسيل ووارسو، واضحة في تأكيدها أن أي تسوية نهائية لا يمكن أن تتم إلا عبر حوار مباشر بين الرباط والجزائر.
إن ما يحدث اليوم ليس مجرد تحوّل ظرفي، بل انتقال بنيوي في مقاربة المجتمع الدولي لقضية الصحراء. مبادرة الحكم الذاتي التي قدّمها المغرب سنة 2007 لم تعد خياراً مطروحاً بين خيارات أخرى، بل صارت مرجعية معترفاً بها على نطاق واسع، باعتبارها تحقق توازناً بين السيادة والوحدة من جهة، والتنمية والاستقرار الإقليمي من جهة أخرى.
في خضم هذه التحولات، يبدو أن الجزائر تكرر أخطاء الماضي: الهروب إلى الأمام، الإنكار، والتعويل على دعاية فقدت تأثيرها. أما جبهة البوليساريو، فلم تعد سوى ظلّ يتلاشى تدريجياً مع سقوط الراعي في فخ الواقع.
قد يكون أمام الجزائر ستون يوماً فقط، كما تشير مصادر دبلوماسية أميركية، لتقرر ما إذا كانت ستلتحق بركب التسوية أو تظل أسيرة خطاب قديم فقد كل معنى. فالقطار يتحرك بسرعة، ومن يتأخر هذه المرة، قد يجد نفسه خارج التاريخ.