الهوية والتعايش: عندما تلتقي فاس بماربورغ في حوار أكاديمي حول الإنسان في زمن التحولات
بوشعيب البازي
في عالمٍ يزداد فيه الاضطراب الهوياتي والتباعد الثقافي، برزت من مدينة ماربورغ الألمانية مبادرة أكاديمية تُعيد طرح سؤالٍ قديمٍ بحلة جديدة، كيف يمكن للهوية أن تكون جسرًا للتعايش لا حاجزًا أمامه؟ تحت هذا العنوان، نظم مركز الدراسات الشرق أوسطية بجامعة ماربورغ، بشراكة مع مختبر الدكتوراه في الدراسات الاجتماعية والثقافية والفلسفية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، والمعهد المغربي الألماني للدراسات والبحوث، ومؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج، ندوةً دولية موسعة جمعت باحثين مغاربة وألمانًا في حوارٍ متكامل حول موضوع “الهوية والتعايش”.
هوية تتجاوز الحدود الجغرافية
الندوة، التي احتضنتها قاعة المؤتمرات بمركز الدراسات الشرق أوسطية، لم تكن مجرّد لقاءٍ علمي، بل مختبرًا فكريًا مفتوحًا لإعادة تعريف المفاهيم المألوفة. فقد افتتحها البروفيسور ألبرشت فوس، رئيس شعبة الدراسات الإسلامية بجامعة ماربورغ، بمداخلةٍ استرجع فيها حكايات جده عن المغرب، وصوره الأولى عن الشباب المغربي في فرانكفورت خلال تسعينيات القرن الماضي. اعترف فوس بأن زيارته الأولى للمغرب كانت صدمة ثقافية إيجابية، قلبت تلك الصور النمطية رأسًا على عقب، بعدما لمس عن قرب كرم الضيافة وروح الانفتاح الثقافي لدى المغاربة.
كان حديث فوس أقرب إلى شهادة شخصية منه إلى تحليل أكاديمي، مما منح الندوة بُعدًا إنسانيًا حيًا، يُبرز كيف يمكن للتجربة الفردية أن تهدم ما تبنيه الصور النمطية من جدران صامتة.
الهوية في عصر الذكاء الاصطناعي
في مداخلةٍ فكرية لافتة، تناولت الدكتورة العالية ماء العينين، أستاذة الدراسات العربية بجامعة محمد الخامس بالرباط، مفهوم الهوية في زمن الذكاء الاصطناعي، مستحضرةً مصطلح “الهوية السائلة” الذي ابتكره عالم الاجتماع زيغمونت باومان. اعتبرت ماء العينين أن الإنسان الرقمي اليوم يعيش تحوّلات عميقة في معنى الانتماء، حيث تتجاوز الهويات حدود الجغرافيا واللغة، لتتشكل في فضاءات افتراضية جديدة تفرض إعادة التفكير في مفهوم التفاعل الإنساني ذاته.
أنثروبولوجيا الاندماج والتعارف
من جانبه، ركّز الدكتور عبد القادر محمدي، أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بجامعة فاس، على البعد الأنثروبولوجي في قضايا الهجرة والاندماج، معتبرًا أن التعايش لا يتحقق بقرارات سياسية، بل عبر معرفة الآخر، واحترام تجربته الثقافية، وتقدير لغته ورموزه اليومية. وأوضح أن المجتمعات الأوروبية، ومنها الألمانية، بحاجة إلى تجاوز فكرة “الضيف والمضيف” نحو بناء فضاء مشترك تسوده المساواة الثقافية والاحترام المتبادل.
من الطعام إلى التفاهم الثقافي
في واحدة من أكثر المداخلات حيوية، قدّمت الباحثة والإعلامية ناديا يقين، مديرة المعهد المغربي الألماني للدراسات والبحوث، قراءة رمزية للطعام بوصفه “لغة للتعايش”. تحدثت عن “الخبز والملح” كقيمة إنسانية مشتركة بين الثقافتين المغربية والألمانية، وروت قصة مهاجرة مغربية من الجيل الأول في ألمانيا استطاعت من خلال إعداد الأطباق المغربية لجيرانها الألمان أن تُحوّل الغربة إلى فرصة للتقارب الإنساني، رغم غياب اللغة المشتركة. الطعام، كما أوضحت يقين، “أداة ناعمة للاندماج حين يُغيب الخطاب السياسي صوت الإنسان”.
أما الباحث هشام عبيدي، الأخصائي الاجتماعي وعضو مركز الدراسات الشرق أوسطية، فقد تناول المفاهيم العلمية للهوية والتعايش من منظور علم النفس الاجتماعي، مبرزًا كيف يمكن لهذه المفاهيم أن تتحول إلى أدوات تربوية تسهم في بناء ثقافة السلام داخل المؤسسات التعليمية الأوروبية والمغربية على حد سواء.
شراكة أكاديمية نحو بناء جسور جديدة
الندوة لم تكتفِ بالحوار النظري، بل فتحت المجال لتجديد أطر التعاون بين جامعة ماربورغ وجامعة سيدي محمد بن عبد الله. فقد شهدت الجلسة الختامية مناقشة نقاط اتفاقية الشراكة بين المؤسستين، التي تُعنى بالإشراف المشترك على أطروحات الدكتوراه، وتبادل الأساتذة والخبرات البحثية، وتنظيم لقاءات أكاديمية مشتركة. هذه الشراكة العلمية تمثل نموذجًا ملموسًا للتعايش الأكاديمي، وتجسيدًا للعلاقة العريقة بين فاس، المدينة العلمية المغربية، وماربورغ، المدينة الجامعية الألمانية التي تأسست سنة 1527 وتُعد أول جامعة بروتستانتية في العالم.
بين فاس وماربورغ… الجسر الإنساني
أجمع المشاركون على أن ما يجمع المدينتين يتجاوز التاريخ الجامعي، ليصل إلى روحٍ ثقافية مشتركة تقوم على البحث والمعرفة والانفتاح. وقد اختُتمت الزيارة بجولة ثقافية للتعرف على معالم ماربورغ، التي تحتفظ بملامح القرون الوسطى وتزدان بآثار الأخوين غريم، مؤسسي الحكاية الشعبية الألمانية، في مشهدٍ يوحي بأن الحكايات، تمامًا كالهوية، تُعيد تشكيل نفسها باستمرار.
هوية تتكلم لغة الإنسان
أكدت الندوة في خلاصتها أن الهوية ليست جدارًا يفصل، بل لغةً تجمع. وأن التعايش لا يُبنى فقط على التفاهم العقلي، بل على التجربة الإنسانية اليومية التي تصنعها التفاصيل الصغيرة: وجبة طعام، حوار جامعي، أو مصافحة صادقة بين ثقافتين تبحثان عن مشتركٍ إنساني.
بهذا المعنى، جاءت ندوة “الهوية والتعايش” بماربورغ ليست مجرد حدث أكاديمي، بل إعلانًا رمزيًا عن ضرورة أن يتكلم الفكر بلغة الإنسان في زمنٍ تتقاطع فيه التكنولوجيا مع القيم، وتختبر فيه العولمة حدود الهوية نفسها.