مع اقتراب نهاية العام الحالي، يبدو أنّ ملف الصحراء المغربية يتّجه نحو إغلاق نهائي، ليس بقرار فوقي أو تفاوضي فحسب، بل كنتيجة منطقية لمسار دبلوماسي طويل قادته الرباط بثبات وحنكة. وفي المقابل، تجد الجزائر نفسها أمام مأزق تاريخي غير مسبوق: ماذا تفعل بعشرات الآلاف من سكان مخيمات تندوف الذين احتجزتهم لعقود تحت يافطة “الشعب الصحراوي”؟
لم يعد هذا السؤال أخلاقياً أو إنسانياً فقط، بل صار سياسياً وجودياً بالنسبة للنظام الجزائري. فالجزائر التي استخدمت “البوليساريو” كورقة ضغط إقليمية، لم تُعِد يوماً سيناريو اليوم الذي ستُجبر فيه على طي هذا الملف. ومع تغير المعطيات الميدانية والاعترافات الدولية المتزايدة بسيادة المغرب على صحرائه، باتت ورقة المخيمات عبئاً سياسياً وأمنياً على دولة لم تعد تملك ترف المناورة.
الجزائر بين الحرج والسيادة
السلطات الجزائرية لن تستقبل سكان المخيمات كمواطنين، ولن تعترف بهم كجزائريين، لأن ذلك يعني عملياً الاعتراف بأنّهم عاشوا طيلة نصف قرن داخل أراضيها بلا وضع قانوني. كما أنّ منحهم الجنسية أو الإقامة القانونية سيفتح ملفات محرجة أمام المجتمع الدولي حول ظروف احتجازهم، وحرمانهم من أبسط الحقوق المدنية لعقود. الجزائر التي طالما قدّمت نفسها كـ”حاضنة إنسانية”، لا تستطيع تحمّل كلفة استيعاب عشرات الآلاف من الأشخاص بلا سند قانوني أو اقتصادي، في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة اجتماعية خانقة واحتقان سياسي داخلي.
المغرب يغلق الباب في وجه “المرتزقة”
في الجهة المقابلة، يبدو الموقف المغربي أكثر وضوحاً. فالمملكة، التي استرجعت أراضيها عبر الدبلوماسية والتنمية، لن تقبل بعودة عناصر “البوليساريو” أو من حارب ضدها. كما لن تعترف قانونياً بأي فرد وُلد بعد سنة 1975 داخل المخيمات كمغربي، لأنّ هؤلاء لم يكونوا ضمن النسيج الوطني قبل الاحتلال الجزائري لملف الصحراء. فالمغرب اليوم ليس في موقع الضعف الذي كان عليه في سبعينيات القرن الماضي، بل في موقع من يمسك بزمام المبادرة ويحدد شروط المصالحة، لا من يُملى عليه جدولها.
لاجئون بلا وطن
تلك هي المعضلة التي تتجنب الجزائر طرحها علناً: ماذا بعد؟ أين سيذهب سكان تندوف بعد أن تُسدل الستارة على آخر فصول النزاع؟ لا المغرب سيستقبلهم، ولا الجزائر ستتجرأ على دمجهم. سيجد الآلاف أنفسهم فجأة في فراغ قانوني وإنساني، لا يحملون أوراق هوية، ولا يملكون أرضاً يعودون إليها. الأمم المتحدة بدورها قد تجد نفسها أمام أزمة إنسانية جديدة من صنع سياسي بحت، بعدما كانت هذه المخيمات لعقود رهينة التوظيف الدبلوماسي.
نهاية وهم وولادة مأساة
عندما تُجبر الجزائر على إنهاء الملف قبل نهاية السنة، كما تشير معظم المؤشرات الدولية، لن يكون ذلك انتصاراً دبلوماسياً بقدر ما سيكون إعلان إفلاس سياسي لنظام بنى جزءاً من شرعيته على قضية مصطنعة. أما أولئك الذين رُبّوا على شعارات “التحرير” و”الدولة الوهمية”، فسيكتشفون أنّهم كانوا ضحايا لصفقة سياسية أكبر منهم.
في نهاية المطاف، لن يجد “لاجئو” تندوف سوى الحدود الموصدة، وذاكرة الخداع. لا وطن يستقبلهم، ولا نظام يعترف بهم. الجزائر تخلت عنهم مجبرة، والمغرب تجاوزهم تاريخياً. وحدهم سيدفعون ثمن الوهم الطويل الذي سُمّي يوماً “جمهورية”.