البوليساريو تكتشف فجأة أن الحكم الذاتي “ليس سيئاً”… عندما تلوح عزلة سياسية في الأفق
بوشعيب البازي
كأنّ رياح الصحراء بدأت تهبّ من الاتجاه المعاكس. فها هي جبهة البوليساريو، التي أمضت نصف قرن وهي تردد شعارات “التحرير والاستقلال”، تكتشف بين عشية وضحاها أنّ مقترح الحكم الذاتي المغربي قد لا يكون “استعماراً مقنّعاً” كما كانت تصفه، بل ربما “ميثاق ارتباط حرّ” قابل للنقاش… بعد أن أصبحت فعلاً غير حرّة حتى في خطابها.
قبل أيام قليلة من جلسة مجلس الأمن، خرج القيادي في الجبهة محمد يسلم بيسط، بوجه دبلوماسي متعب، ليعلن ما يشبه التوبة السياسية: “إذا اختار الصحراويون الحكم الذاتي، فسنقبل به”. تصريح يشبه إلى حدّ ما قول المقامر الخاسر، “لو ربحتُ بالصدفة، فسأشارك الجائزة”. خطوة متأخرة، لكنها تكشف إدراك الجبهة أن العالم لم يعد يشتري أسطوانة “تقرير المصير” القديمة التي تعزف على وترٍ انفصل عن الواقع.
فالمزاج الدولي تغيّر. واشنطن قالت كلمتها منذ سنوات ، الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هو الحل الواقعي الوحيد. أوروبا تبعت الإيقاع ذاته، وإسبانيا، التي كانت يوماً “الوصيّ الاستعماري”، أصبحت اليوم من أبرز الداعمين للمبادرة المغربية. أمام هذا الزخم، لم يجد قادة الجبهة سوى أن يخرجوا بوجه جديد، يبتسمون فيه على استحياء وهم يردّدون: “نحن لسنا ضد الحكم الذاتي، ولكن داخل استفتاء، وربما مع قليل من الفاصوليا الجزائرية”.
المفارقة الساخرة أن الجبهة، التي ظلت ترفض أي نقاش حول المقترح المغربي بدعوى أنه “يتناقض مع القانون الدولي”، عادت لتقول إن مقترحها “يتضمن كل الخيارات بما فيها ميثاق الارتباط الحر الذي يشبه ما يقترحه المغرب”. بعبارة أخرى ،“لقد كنا ضد الحكم الذاتي لأننا لم نكن نفهمه جيداً”. إنها لحظة الارتباك السياسي عندما يضطر المرء إلى تقليد خصمه ليبدو واقعياً.
في العمق، ما قاله بيسط ليس اعترافاً فحسب، بل هو مؤشر على ما يشبه حالة انهيار في سردية الانفصال. فحين تبدأ قيادة الجبهة في استخدام لغة مجلس الأمن نفسها، وحين يتحول “تقرير المصير” إلى “خيارات متعددة”، فهذا يعني أن حلم “الدولة الصحراوية” تراجع إلى مستوى “نقطة في جدول أعمال النقاش”، لا أكثر.
الجزائر، من جانبها، تبدو كمن يشاهد المباراة من المدرجات بعد أن أُقصي فريقها في الدور الأول. لم تعد قادرة على قيادة الجوقة ولا على تمويل اللحن القديم. فبعدما فشلت في إقناع العالم بأنّها ليست طرفاً في النزاع، وجدت نفسها الآن أمام جبهة تتخلى تدريجياً عن خطابها الأصلي، لتبقى الجزائر وحيدة تصفق لسراب اسمه “تقرير المصير”.
إن ما يجري اليوم ليس سوى إعادة كتابة للتاريخ بمنطق الواقع. فالحكم الذاتي، الذي كانت البوليساريو تعتبره “تنازلاً مذلاً”، أصبح في عيونها “خياراً من ضمن الخيارات”. التحول في النبرة يكفي لفهم أن ساعة الحقيقة اقتربت، وأن اللعبة السياسية وصلت إلى نهايتها.
المشهد الختامي يبدو واضحاً، المغرب يتقدم بثقة في مجلس الأمن مدعوماً من القوى الكبرى، بينما الجبهة تعيد صياغة خطابها في محاولة لتأجيل إعلان الهزيمة. الفرق بين الاثنين هو أن الرباط تتحدث بلغة المستقبل، فيما ما تزال تندوف تتحدث بلسان ماضٍ انتهت صلاحيته.
الجبهة الانفصالية، التي كانت ترفع شعار “لا بديل عن الاستقلال”، صارت اليوم تتحدث عن “كل الخيارات”. هذا ليس تحولاً في الموقف فحسب، بل إقرار ضمني بأن مشروع الانفصال مات سريرياً. ولأن الهزيمة مؤلمة، اختارت البوليساريو أن تسميها “مرونة سياسية”. أما العالم، فقد فهم الرسالة: الحكم الذاتي ليس حلاً مغربياً فقط، بل أصبح ضرورة أممية.