القناصلة المغاربة بين جدران القنصليات وحدود التأثير الخارجي: الحاجة إلى رؤية جديدة للدبلوماسية الميدانية
بوشعيب البازي
يبدو أن الدبلوماسية القنصلية المغربية في الخارج تحتاج اليوم إلى مراجعة هادئة وشجاعة، ليس في بنيتها الإدارية أو طاقمها البشري فقط، بل في فلسفة عملها الميداني. فبينما تزداد التحديات المرتبطة بصورة المغرب في العالم، وتتعاظم رهانات الدفاع عن قضاياه الوطنية، خصوصاً قضية الصحراء المغربية، ما زال جزء من العمل القنصلي حبيس المكاتب ونوافذ الاستقبال، في وقت يتطلب السياق الراهن حضوراً أكثر انفتاحاً وفعالية في المجتمعات المحلية لدول الإقامة.
الدبلوماسية القنصلية الجديدة: من “الإدارة” إلى “التأثير”
في الدبلوماسية الحديثة، لم يعد القنصل مجرد موظف يُنجز وثائق إدارية أو يقدّم خدمات للجالية. بل أصبح فاعلاً دبلوماسياً ميدانياً مطالباً ببناء علاقات مؤسسية مع السلطات المحلية، والبرلمانيين، والفاعلين المدنيين والإعلاميين، لترسيخ حضور بلاده في المشهد العام للبلد المضيف.
فالقضايا الكبرى من ملف الصحراء المغربية إلى صورة المملكة في الخارج لا تُدافع عنها فقط من فوق المنابر الدولية، بل أيضاً من خلال عمل يومي تراكمي داخل البلديات والفضاءات الثقافية والإعلامية.
إن زيارة قنصل إلى بلدية، أو توقيعه اتفاقية تعاون ثقافي أو اجتماعي، قد يكون أحياناً أكثر تأثيراً من مداخلة دبلوماسية رسمية، لأنه يعكس حضور المغرب كفاعل إيجابي في النسيج المحلي، ويمنح الجالية المغربية شعوراً بالاعتراف والاعتزاز بهويتها المزدوجة.
ستة أشهر لرسم رؤية… وليس فقط لتسيير مرفق
من الطبيعي أن تتساءل وزارة الشؤون الخارجية المغربية اليوم ، ما الذي يقدّمه القنصل العام فعلاً بعد تعيينه بستة أشهر في منصبه؟
الجواب يجب أن يتجاوز الإحصائيات الإدارية وعدد الوثائق المُنجزة، ليصل إلى خطة عمل واضحة ورؤية استراتيجية تترجم في مبادرات واقعية، اتفاقيات مع الجماعات المحلية، برامج ثقافية مشتركة، ندوات أكاديمية حول الصحراء المغربية، ولقاءات مع النخب السياسية والمدنية في بلد الإقامة. فالتحرك القنصلي ليس ترفاً دبلوماسياً، بل ضرورة سياسية وثقافية في زمن تتسابق فيه الدول لبناء سردياتها في الخارج عبر “القوة الناعمة” والتواصل المباشر.
غياب التوجيه الدبلوماسي… أزمة هادئة داخل الجهاز الخارجي
اللافت، كما يلاحظ عدد من المتابعين للشأن القنصلي، أن بعض القناصلة يعملون في عزلة تامة، دون توجيه فعلي من السفراء أو تنسيق استراتيجي مع السفارات. يتحركون كما لو كانوا زواراً أو موظفين عابرين، لا كممثلين رسميين لدولة عريقة تمتلك أدوات تأثير دبلوماسي وثقافي معتبرة.
وهذا الخلل في التوجيه سواء ناتج عن ضعف التواصل أو غياب روح القيادة في بعض البعثات يفرغ العمل القنصلي من مضمونه السياسي والتمثيلي، ويحوّله إلى إدارة جغرافية محدودة الأثر.
من الدبلوماسية الورقية إلى الدبلوماسية الحية
اليوم، تحتاج وزارة الخارجية إلى إعادة تعريف وظيفة القنصل. ليس كـ”موظف خدمات”، بل كـ”فاعل تواصلي” يمثّل المغرب في كل فضاء يوجد فيه مواطن مغربي، سواء كان ذلك في بلدية صغيرة في بلجيكا، أو في مقاطعة فرنسية أو حي مغاربي في هولندا.
فالقنصل الذي يبادر إلى حضور تظاهرة ثقافية، أو يرعى مشروعاً شبابياً للجالية، أو يُقيم معرضاً للثقافة الحسانية، هو الذي يخلق الفرق الحقيقي في صورة المغرب خارج حدوده.
رؤية مطلوبة… وإرادة تنفيذية
إن نجاح العمل القنصلي لن يتحقق إلا عبر مقاربة جديدة قائمة على التخطيط والتقييم. وعلى الوزارة أن تطلب من كل قنصل بعد مرور ستة أشهر من توليه المنصب خطة عمل دقيقة تتضمن أهدافاً كمية ونوعية، وبرامج تبرز مساهمته في الترويج لقضايا المغرب وثقافته.
وفي المقابل، ينبغي أن يتحمل السفير دوره الطبيعي كـ”منسق سياسي” يقود القناصل ويواكب أداءهم في الميدان، بدل أن يتركهم يعملون فرادى في جزر إدارية منعزلة.
إن القنصل المغربي في الخارج ليس مجرد ممثل إداري، بل هو واجهة الدولة في عيون العالم. وحين يخرج من جدران القنصلية ليعمل مع البلديات والجامعات والجمعيات، فهو لا يخدم فقط الجالية، بل يخدم صورة المغرب ومصالحه الاستراتيجية.
إنها معادلة بسيطة، كل اتفاقية محلية، كل نشاط ثقافي، كل تكريم لجالية فاعلة… هو استثمار في الرأسمال الرمزي للمملكة، وفي حضورها الإيجابي داخل المجتمعات الأوروبية.