“بوليساريو أمام مرآة الواقع: من وهم الانفصال إلى حسابات «فاتورة السلام»”

بوشعيب البازي

في مشهد دبلوماسي يعيد رسم ملامح النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، أطلقت جبهة بوليساريو ما يشبه نداء الاستسلام السياسي، معلنةً استعدادها لـ«تقاسم فاتورة السلام» مع المغرب، في خطوةٍ فُسّرت على نطاق واسع بأنها إقرار ضمني بنهاية مشروع الانفصال وبداية التحاقٍ اضطراري بمسار الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية.

تزامن هذا التحول اللافت مع انعقاد جلسةٍ لمجلس الأمن الدولي خُصصت لملف الصحراء، حيث بدا أن الجبهة الانفصالية فقدت آخر أوراقها التفاوضية، ولم يعد أمامها سوى التكيّف مع واقعٍ دولي يميل بكامله نحو المقترح المغربي، باعتباره الحل الواقعي والوحيد الممكن لإنهاء النزاع.

من خطاب الحرب إلى لغة التنازلات

محمد يسلم بيسط، الذي يقدم نفسه وزيراً لخارجية “الكيان الصحراوي”، أقرّ خلال ندوةٍ صحفية بالجزائر العاصمة بأن «السلم مع المغرب له كلفة»، مؤكداً أن الجبهة «مستعدة لدفع حصتها من الفاتورة مهما كانت التنازلات». هذه العبارة، رغم بساطتها، تختصر الانعطاف التاريخي في موقف الجبهة، التي كانت حتى الأمس القريب تتحدث بلغة «التحرير والكفاح المسلح».

وتأتي تصريحات بيسط بعد رسالة بعث بها زعيم الجبهة، إبراهيم غالي، إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، عبّر فيها عن استعداد بوليساريو «لتقاسم فاتورة السلام مع المغرب». وهو خطاب غير مسبوق في تاريخ الجبهة، إذ يتجاوز شعاراتها الثابتة حول “تقرير المصير” ليضعها وجهاً لوجه أمام معادلة واقعية ، إمّا الانخراط في حلٍّ سياسي تحت المظلة المغربية، أو الانقراض السياسي في ظل عزلةٍ دبلوماسية خانقة.

دبلوماسية الرباط الهادئة تفكك آخر خطوط الجبهة

لم يأتِ هذا التحول من فراغ. فالمغرب، بقيادة العاهل محمد السادس، اعتمد على مدى عقدين نهجاً دبلوماسياً متدرجاً وفعالاً، يقوم على توسيع قاعدة الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء، وتعزيز الاستثمارات الكبرى في الأقاليم الجنوبية، وتحويل الملف من نزاعٍ سياسي إلى مشروع تنموي متكامل.

هذه المقاربة جعلت العالم ينظر إلى مبادرة الحكم الذاتي، المقدمة منذ عام 2007، كخيارٍ وحيد يتمتع بالجدية والمصداقية. واليوم، لم يعد في المعادلة الدولية طرفٌ مستعد للرهان على أطروحة الانفصال، في ظل الدعم الواضح للمقترح المغربي من الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا وألمانيا وبريطانيا، بل وحتى روسيا التي أرسلت إشارات غير مسبوقة بخروجها من دائرة الحياد إلى موقف أقرب إلى دعم المغرب.

مجلس الأمن على خط الحسم

من المنتظر أن يصوّت مجلس الأمن في 31 أكتوبر الجاري على قرارٍ جديد بشأن الصحراء المغربية، بناءً على مسودةٍ قدمتها واشنطن بصفتها «حاملة القلم» في الملف. المسودة تنص على اعتبار الحكم الذاتي المغربي الإطار الوحيد للحل، وتدعو الجزائر وبوليساريو إلى العودة الفورية للمفاوضات دون شروط مسبقة.

هذه المسودة تمثل تحوّلاً دبلوماسياً واضحاً: فواشنطن لم تكتفِ بدعم المغرب، بل تسعى إلى هندسة تسويةٍ تُجبر الجزائر على رفع يدها عن الملف تدريجياً، تمهيداً لمصالحةٍ مغربية-جزائرية قد تُبنى برعاية أميركية.

هواجس الجبهة: الخوف من “مصالحة فوق الطاولة”

يدرك قادة بوليساريو أن أي تقارب محتمل بين الرباط والجزائر سيضعهم في مأزقٍ وجودي. فالجبهة التي وُلدت في رحم الحرب الباردة وتغذت من الدعم الجزائري، تجد نفسها اليوم أمام خطر التلاشي إن رفعت الجزائر الغطاء السياسي والمالي عنها. ولذلك، تسارع إلى إرسال إشارات “مرونة” نحو الأمم المتحدة والمغرب على السواء، في محاولةٍ لتأمين موقعٍ رمزي في أي تسوية مرتقبة قبل أن تُفرض عليها كأمرٍ واقع.

المغرب يفرض معادلة جديدة

لقد نجح المغرب في نقل الملف من ساحة الصراع الأيديولوجي إلى ميدان الواقعية السياسية. لم يعد السؤال «من يملك الشرعية التاريخية؟» بل «من يملك القدرة على بناء الاستقرار والتنمية؟». وفي هذا الاختبار، تبدو الكفة محسومة. فالمشاريع العملاقة في الداخلة والعيون، والموانئ الجديدة، والبنية التحتية المتقدمة، أضحت أبلغ ردٍّ على دعاة الانفصال.

نهاية مرحلة الوهم

التحول الأخير في خطاب جبهة بوليساريو لا يعني بداية السلام، لكنه يُعلن نهاية مرحلة الوهم. فبعد نصف قرن من الشعارات والارتهان، تعود الجبهة إلى طاولة الواقع، مدفوعة بضغط الزمن وتآكل الشرعية وفقدان الدعم.

اليوم، يفرض المغرب معادلة جديدة ، من أراد السلام فعليه أن يدفع فاتورته، ولكن على أرض السيادة المغربية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com