في مشهد قضائي يعكس توازنًا دقيقًا بين مقتضيات الردع وضمانات العدالة، أصدر القضاء المغربي أحكامًا وقرارات وُصفت بـ«المخففة» في حق المتورطين في أحداث العنف والتخريب التي رافقت بعض مظاهرات ما يعرف بـ«جيل زاد» خلال شهر سبتمبر الماضي.
وقد جاءت هذه الأحكام، وفق مصادر قضائية، بعد دراسة معمقة للملفات، ومراعاة واضحة للظروف الاجتماعية والنفسية للمتهمين، فضلاً عن خلو سجلات عدد كبير منهم من السوابق القضائية.
بين الصرامة القانونية والاعتبارات الإنسانية
أوضح القاضي حسن فرحان، ممثل رئاسة النيابة العامة، أن الأحكام الصادرة “لم تكن متسرعة كما يروج البعض، بل تمت في آجال معقولة تراعي الوضعية الجنائية لكل متهم”.
وأشار إلى أن “المحاكم تعاملت مع الملفات بموضوعية ومسؤولية، وضمنت للمتهمين كافة حقوق الدفاع والمحاكمة العادلة المنصوص عليها في القانون”.
ويبدو أن القضاء اختار في هذه القضايا مقاربة مزدوجة: الحزم في مواجهة الأفعال الماسة بالأمن والنظام العام، والمرونة الإنسانية في التعامل مع المتورطين من الفئات الهشة أو غير المسبوقين قضائيًا.
فقد تراوحت العقوبات في القضايا الأشد خطورة بين خمس سنوات وخمس عشرة سنة فقط، رغم أن النصوص القانونية تتيح أحكامًا تصل إلى ثلاثين سنة في بعض الحالات.
احترام صارم لضمانات المحاكمة العادلة
خلافًا لما تم تداوله على بعض المنصات، شدد القاضي فرحان على أن “جميع مراحل البحث والمحاكمة تمت في احترام تام للقانون”.
وأوضح أن محاضر الاستماع أنجزت بحضور محامين وبإشعار العائلات، دون أي خرق أو إكراه، مؤكّدًا أن “الاعترافات المنتزعة تحت الضغط تبقى من روايات لا أساس لها في هذه الملفات”.
هذا التأكيد يأتي ليعزز صورة المؤسسة القضائية المغربية التي تحرص، منذ إصلاحات دستور 2011، على ترسيخ مبادئ الشفافية والمساءلة، خصوصًا في القضايا ذات الطابع الاجتماعي أو السياسي الحسّاس.
أرقام تكشف عن مقاربة متدرجة
حسب معطيات النيابة العامة، تم توقيف عدد كبير من المشاركين في الوقفات غير المصرح بها، غير أن 3300 شخص أُفرج عنهم بعد التحقيق، في حين تمت إحالة 2480 شخصًا فقط على العدالة، في مدن كبرى مثل الرباط والدار البيضاء وطنجة وأكادير ووجدة.
كما شملت هذه الوقائع مشاركة عدد من القاصرين الذين تم تسليمهم إلى أوليائهم دون متابعة، في إشارة إلى الطابع الوقائي الذي اختاره القضاء بدل العقاب الأعمى.
وتشير هذه الأرقام إلى أن السياسة الجنائية لم تتجه نحو التصعيد، بل نحو التفريق بين الفعل الجرمي المعزول والمشاركة العرضية، وهو ما يعكس تحولًا في فلسفة التعامل مع احتجاجات الشباب، خصوصًا في سياقات اقتصادية واجتماعية دقيقة.
بين القانون والمجتمع… معادلة العدالة الصعبة
تحليل مضمون الأحكام الأخيرة يبرز أن القضاء المغربي سعى إلى الموازنة بين فرض سلطة القانون واستحضار البعد الاجتماعي.
فالمتورطون في الأفعال الإجرامية الخطيرة، كالعنف ضد الأمنيين أو تخريب الممتلكات العمومية، واجهوا عقوبات رادعة، بينما تم التعامل بمرونة مع من تبينت مشاركتهم الثانوية أو الدافعة فقط بانفعالات ظرفية.
ويرى مراقبون أن هذا النهج يعكس تطورًا في الرؤية القضائية الرسمية التي لم تعد تعتبر الاحتجاج تهديدًا بقدر ما تعتبره ظاهرة اجتماعية تتطلب احتواءً مؤسساتيًا أكثر من المواجهة الأمنية.
العدالة كرافعة للثقة المؤسساتية
إن صدور هذه الأحكام، بعد أشهر من الجدل، يؤكد أن القضاء المغربي لم يساير لا الضغوط السياسية ولا الحملات الإعلامية، بل التزم بمسافة القانون.
ففي الوقت الذي يسعى فيه البعض إلى تصوير المشهد كصراع بين السلطة والجيل الجديد، جاءت الأحكام لتؤكد أن العدالة لا تُدار بالانفعال، بل بالميزان. إن تخفيف العقوبات في حق شباب “جيل زاد” لا يعني التهاون مع الفوضى، بل يترجم إرادة دولة في ممارسة العدالة كأداة توازن اجتماعي، تحفظ هيبة القانون دون سحق أحلام الشباب أو تجاهل سياقاتهم الاقتصادية الصعبة. في ضوء هذه التطورات، يمكن القول إن القضاء المغربي قدّم نموذجًا جديدًا في إدارة الأزمات الاجتماعية عبر المنهج القضائي المتزن. فلا تساهل مع من يعبث بالأمن العام، ولا قسوة مع من وقع في الخطأ بفعل الظروف. وبين هذين الحدّين، تتجلى عدالة عقلانية تحاول أن تصحّح المسار بدل أن تخلق مزيدًا من الاحتقان.