بوريطة يكشف خريطة الطريق الملكية: دبلوماسية التأني الإستراتيجي تحصد ثمارها في قضية الصحراء المغربية
بوشعيب البازي
في لحظة بدت وكأنها محطة تتويج لمسار دبلوماسي طويل، خرج وزير الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج ناصر بوريطة مساء السبت، عبر القناة الثانية، ليضع النقاط على الحروف حول ما وصفه بـ”المقاربة الملكية المتكاملة” في إدارة التحديات الداخلية والخارجية.
هذه المقاربة، كما أوضح الوزير، ليست وليدة الظرف أو ردّ فعل على أحداث متلاحقة، بل رؤية بعيدة المدى وضع أسسها الملك محمد السادس منذ اعتلائه العرش سنة 1999، قائمة على “التأني الإستراتيجي” والاشتغال الثنائي مع الدول الكبرى لصناعة التوافق الدولي حول مبادرة الحكم الذاتي، التي أصبحت اليوم—بحسب العاهل المغربي—“مرجعا دوليا” يحظى بتأييد ثلثي الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
رؤية ملكية تتجاوز منطق اللحظة
يقول بوريطة “ربما بدا للبعض أن الوقت يضيع، لكن الحقيقة أن الملك كان يهيئ الأرضية لتثمر في اللحظة المناسبة”.
عبارة تختزل فلسفة اشتغال المؤسسة الملكية في إدارة الملفات الكبرى، حيث يتقدم العمل المتأني على الاندفاع السياسي، وتتقدم الثقة والمصداقية على الشعارات الظرفية. فاليوم، كما يضيف الوزير، يجني المغرب ثمار سنوات من الالتزام الصادق والمصداقية التي جعلت من المملكة شريكا موثوقا لدى القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ولم يكن ذلك مجرد خطاب دبلوماسي؛ فالتصويت الأخير في مجلس الأمن على القرار رقم 2797 جاء ليجسد هذا المسار، دعم أميركي صريح لمبادرة الحكم الذاتي، وتمديد لولاية بعثة المينورسو إلى أكتوبر 2026، وتصويت إيجابي من 11 دولة من أصل 15، مقابل امتناع روسيا والصين، وغياب الجزائر عن المشاركة.
لحظة دبلوماسية فاصلة
بالنسبة للصحفي بوشعيب البازي ، فإن القرار الأممي يمثل “تحولا إستراتيجيا في مسار نزاع الصحراء قاده الملك محمد السادس بحكمة وحنكة دبلوماسية، إذ أرسى بوضوح أن الحل لن يكون إلا في إطار السيادة المغربية عبر نموذج الحكم الذاتي”.

ويضيف البازي أن المرحلة الحالية تشهد انتقال المجتمع الدولي من منطق التسوية الغامضة إلى منطق الشرعية الواقعية، مؤكداً أن هذه اللحظة التاريخية “تفتح الباب أمام استقرار مغاربي طال انتظاره”.
واشنطن وأوروبا… ثمار الرؤية المتأنية
في معرض حديثه، كشف بوريطة أن الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء سنة 2021 لم يكن وليد صدفة، بل نتيجة تفاعل مباشر بين الملك محمد السادس والإدارة الأميركية آنذاك، في فترة كان يعتقد فيها كثيرون أن مغادرة الرئيس دونالد ترامب ستُسقط القرار. لكن، على العكس، تمكن الملك من تثبيت الاعتراف وتعميقه مع إدارة جو بايدن، التي اعتبرته من القرارات القليلة التي تم الحفاظ عليها لما يتمتع به المغرب من مصداقية ومكانة خاصة.
أما على المستوى الأوروبي، فقد شهدت السنوات الأخيرة تحولات لافتة: مواقف إسبانيا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا أصبحت اليوم أكثر وضوحاً وانسجاماً مع مقاربة المغرب الواقعية.
ولعلّ الموقف الفرنسي، الذي عبّر عنه مندوب باريس الدائم لدى الأمم المتحدة جيروم بونافون، كان الأكثر صراحة حين أكد أن “مستقبل وحاضر الصحراء يرتبطان بالإطار السيادي المغربي، وأن خطة الحكم الذاتي تمثل الحل الواقعي والوحيد لإنهاء النزاع”.
البعد الأفريقي… عودة من موقع القوة
لا يمكن فصل هذا المسار عن العودة المغربية إلى الاتحاد الأفريقي سنة 2017، وهي عودة وصفها بوريطة بأنها “ثمرة معركة سياسية ودبلوماسية قادها الملك بنفسه”.
تسع دول أفريقية كانت تعترف بما يسمى “الجمهورية الوهمية”، غيّرت مواقفها بعد زيارات ملكية مباشرة، في إثيوبيا ونيجيريا وغانا وغيرها، ما منح المغرب زخماً غير مسبوق داخل القارة، وأعاد ترتيب المشهد الأفريقي من منظور واقعي جديد.
و اكد الكاتب الصحفي بوشعيب البازي في تدوينة له على منصة X : ما قاله بوريطة ليس مجرد توثيق لمسار دبلوماسي، بل هو تأكيد على أن المغرب اختار منذ ربع قرن طريق “الزمن الطويل” في السياسة الخارجية، حيث لا مكان للمفاجآت ولا للانفعالات.
لقد أثبت الملك محمد السادس أن إدارة الملفات الإستراتيجية لا تُقاس بسرعة النتائج، بل بعمق التحول. فبينما كان خصوم المملكة يراهنون على مرور الزمن لإضعاف الموقف المغربي، جعل العاهل المغربي من الزمن نفسه حليفاً لصالحه.
ومثلما تُبنى الجسور على أعمدة خفية تحت الماء، بُنيت دبلوماسية الحكم الذاتي على ثقة دولية تزداد رسوخاً كل عام.
اليوم، يمكن القول إن المقاربة الملكية حول الصحراء المغربية أصبحت مرجعاً في الواقعية السياسية، ومثالاً على أن الهدوء لا يعني التراخي، وأن الصمت الدبلوماسي قد يخفي وراءه أعنف المعارك وأكثرها حسماً.
فحين يختار المغرب أن يتريث، فهو في الواقع يشتغل في صمت، وها هو العالم اليوم يعترف بأن “التأني الإستراتيجي” الذي تحدث عنه بوريطة لم يكن سوى عنواناً آخر لحكمة ملك رسم طريق بلاده نحو السيادة والاحترام.