“التاغنانت الجزائرية”.. حين تتحول الصلابة إلى عزلة دبلوماسية

بوشعيب البازي

بقلم: بوشعيب البازي

في الثالث من نوفمبر الجاري، نشرت مجلة “لو كورييه إنترناسيونال” الفرنسية مقالاً تحليلياً غير عادي بعنوان: “الجزائر أخطأت بالتيبّس في خطة الحكم الذاتي للصحراء المغربية”، اعتبره كثيرون أول تعليق دولي كبير على قرار مجلس الأمن رقم 2756، الذي صدر قبل أيام وأكد صراحةً أولوية المقترح المغربي للحكم الذاتي، متجاوزاً بشكل واضح فكرة الاستفتاء التي تحوّلت لدى النظام الجزائري إلى عقيدة سياسية منذ نصف قرن.

لكن ما ميّز المقال الفرنسي لم يكن فقط مضمونه السياسي، بل قدرته على تحويل مصطلح محلي بسيط – “التاغنانت” – إلى مفتاح لفهم أزمة دبلوماسية كاملة. هذا التعبير الأمازيغي، الذي يعني “الصلابة الجامدة”، استُخدم بذكاء ليصف حالة التصلب التي تعيشها الدبلوماسية الجزائرية، حيث يقول النص: “هذه الأخيرة، مخلصة لخطها في الشك والرفض.. تلك التاغنانت الشهيرة التي تحولت إلى عقيدة وجدت نفسها مرة أخرى معزولة، عاجزة عن تغيير مسار الأحداث.”

تحوّلت “التاغنانت” في المقال من استعارة لغوية إلى تشخيص سياسي دقيق: إنها ليست مجرد خطأ في التقدير، بل منهج حكم. فالنظام الجزائري – كما يصفه التحليل – حول الدبلوماسية إلى أداة داخلية لخدمة التعبئة الشعبوية، إذ يُستعمل الخطاب العدائي ضد المغرب والعالم كوسيلة لتحفيز الرأي العام وإخفاء الأزمات الداخلية. المقال يضيف بوضوح: “في انغلاقها داخل منطق الغرور الجريح، حولت السلطة الجزائرية الدبلوماسية إلى واجهة للسياسة الداخلية: الصراخ ضد العالم لتحفيز الرأي العام بشكل أفضل، ورفع شعار ‘السيادة الوطنية’ لإخفاء العزلة.”

في الواقع، يكشف هذا التشخيص الفرنسي أن الجزائر لم تعد قادرة على كسب حلفاء جدد منذ 2020، في حين أن أكثر من مائة دولة تدعم علناً خطة الحكم الذاتي المغربية. إنها ليست مجرد معركة دبلوماسية خاسرة، بل انعكاس لفشل بنيوي في فهم التحولات الدولية. فبينما يتحدث العالم اليوم عن التنمية المستدامة والاندماج الإقليمي، لا تزال الجزائر ترفع شعارات الحرب الباردة وتستحضر قاموس “التحرر الوطني” في سياق لم يعد يتجاوب معه أحد.

الإعلام كمرآة للأزمة

تتجلى “التاغنانت” أيضاً في المشهد الإعلامي. فبعد قرار مجلس الأمن الأخير، تحولت القنوات الجزائرية الرسمية مثل الخبر والنهار و*“الجزائر الدولية”* إلى أبواق تكرر الخطاب ذاته: اتهامات، نفي، وإنكار للواقع. استثمرت الدولة ملايين الدولارات في حملات رقمية عبر “فيسبوك” و”تيك توك”، لكنها اصطدمت بجدار اللامبالاة الدولية. فالمحتوى المغربي، الذي يركز على التنمية في الداخلة والعيون، يحصد أكثر من 10 ملايين مشاهدة أسبوعياً، في حين بالكاد تتجاوز المقاطع الجزائرية بضعة آلاف من التفاعلات.

حتى على المنصات الشبابية، حيث يُفترض أن تكون الجزائر أكثر مرونة، جاءت النتيجة كارثية. حسابات ممولة وتعليقات آلية تردد العبارات نفسها، بينما يتفاعل المستخدمون بالردود الساخرة: “اذهبوا وصوروا تندوف قبل أن تتحدثوا عن الصحراء.” إنها حرب رقمية خاسرة قبل أن تبدأ، لأن الدعاية لا يمكنها أن تهزم الواقع.

ما بين السياسة والعزلة

لا شك أن المقال الفرنسي شكّل وثيقة دبلوماسية نادرة بلغة التحليل لا بلغة المجاملة. فحين يكتب محلل أوروبي أن الجزائر “حولت الدبلوماسية إلى واجهة للسياسة الداخلية”، فإنه لا ينتقد فشلاً مؤقتاً، بل يصف نمط حكم يقوم على الانغلاق والخوف من الإصلاح. في هذا السياق، يصبح التشبث بملف الصحراء وسيلة للهروب من مواجهة الأسئلة الحقيقية: لماذا يتدهور الاقتصاد رغم المداخيل النفطية؟ لماذا تفشل المؤسسات في استعادة ثقة المواطنين؟ ولماذا تتحول السياسة الخارجية إلى حائط صدّ نفسي أكثر منها أداة تأثير دولي؟

رأيي ككاتب

من وجهة نظري، يمثل مصطلح “التاغنانت” أكثر من مجرد عنوان صحفي لافت. إنه مرآة لحالة نظام سياسي اختار الجمود كإستراتيجية بقاء. في الدبلوماسية، كما في الإعلام، تقتضي الواقعية القدرة على التكيف مع المتغيرات. لكن الجزائر اختارت طريقاً معاكساً: كلما تغير العالم، ازدادت تصلباً. وهنا يكمن جوهر المشكلة.

لقد فقدت الجزائر زمام المبادرة في ملف الصحراء المغربية، ليس لأن المغرب تفوق فقط في الحجة أو التحرك، بل لأن النظام الجزائري ظل أسير خطاب قديم لا يعترف بالزمن. فبينما يتحدث المغرب عن الاستثمار في الأقاليم الجنوبية والطاقة النظيفة والموانئ الكبرى، لا يزال الإعلام الجزائري يعيد بث خطابات من السبعينيات.

في النهاية، لا تحتاج الدبلوماسية إلى “تاغنانت”، بل إلى مرونة وذكاء. والحقيقة أن الجزائر لم تخسر فقط المعركة الإعلامية، بل تخسر شيئاً أثمن: قدرتها على التفاعل مع العالم بواقعية. وما لم تتخلّ عن منطق الصلابة العمياء، ستظل تصرخ في فراغ، بينما يواصل المغرب كتابة فصول جديدة من قصة نجاحه في الصحراء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com