المغرب في ذكرى المسيرة الخضراء الخمسين: عودة الجغرافيا إلى التاريخ

بقلم: بوشعيب البازي

في السادس من نوفمبر 2025، لا يحيي المغرب ذكرى عادية، بل يسترجع نصف قرن من التحدي ونصف ألفية من الاستمرارية. فالمسيرة الخضراء، التي كانت في الأصل فعلًا سياديًا سلميًا لاسترجاع الأرض، غدت اليوم رمزًا لتصحيح التاريخ الاستعماري وإعادة وصل الجغرافيا بأصلها السياسي والحضاري.

منذ القرن الحادي عشر، كانت الصحراء المغربية مهداً لقيام أول إمبراطورية مغربية كبرى على يد المرابطين، الذين امتد سلطانهم من نهر السنغال حتى قلب الأندلس. ومن بعدهم المرينيون، والسعديون، ثم العلويون، جميعهم حملوا ذاكرة الجنوب في مشروعهم لبناء الدولة.

الصحراء لم تكن يوماً حدوداً، بل كانت فضاءً للوحدة الروحية والاقتصادية بين شمال المغرب وعمقه الإفريقي. ومن سجلماسة إلى وادي الذهب، ومن فاس إلى تمبكتو، كان الخط التجاري المغربي يمتد كأنفاس متصلة، توزع الذهب والملح والبضائع، وتوحد الناس بالعُرف والبيعة واللغة والسلطة.

حين أعلن الملك محمد الخامس سنة 1958 أن المغرب سيواصل عمله لاستعادة صحرائه «وفقاً لحقوقه التاريخية وإرادة سكانها»، كان في الواقع يُعيد صياغة ما أكده أسلافه، أن الصحراء ليست امتدادًا جغرافيًا فقط، بل استمرارية سيادية تعود جذورها إلى قرون البيعة والولاء.

الوثائق التي تحتفظ بها أرشيفات الرباط وباريس ومدريد تشهد جميعها على هذه الحقيقة:

  • فمولاي الرشيد أرسل حاميات عسكرية حتى الرأس الأبيض.
  • ومولاي إسماعيل عين حكاماً على تغازة وأقام سلطة على الترارزة.
  • ومولاي الحسن الأول راسل ممثليه في وادي الذهب وموّل المقاومة ضد الإسبان باسمه وباسم الدولة المغربية.

اقتصاديًا، كانت العملة الموحدة والأسواق المتصلة من فاس إلى السنغال دليلاً آخر على وحدة المجال المغربي قبل التقسيم الاستعماري. كانت سجلماسة قلباً نابضاً لشبكة التجارة الصحراوية، ولم يكن التجار الصحراويون يرون أنفسهم «حدوديين»، بل مغاربة يتحركون داخل فضاء واحد.

في ذكرى المسيرة الخضراء الخمسين، يعيد المغرب التأكيد على أن قضية الصحراء ليست صراع حدود بل صراع سرديات، بين من يريد اختزال التاريخ في خرائط استعمارية، ومن يؤمن أن الهوية المغربية وعمقها الإفريقي هما وجهان لعملة واحدة.

فالمسيرة الخضراء برأي الصحفي بوشعيب البازي  ليست حدثاً في كتاب التاريخ، بل درس دائم في صناعة السيادة بالذكاء والشرعية. ما فعله الحسن الثاني قبل خمسين عاماً لم يكن فقط استرجاع أرض، بل استرجاع ذاكرة وهوية. واليوم، ونحن نرى الاستثمارات تمتد في العيون والداخلة والسمارة، ندرك أن المغرب لم يكن يوماً عابراً في الصحراء، بل الصحراء هي التي كانت دائمًا قلب المغرب النابض باتجاه إفريقيا

بعد مرور نصف قرن على المسيرة الخضراء، لم تعد الصحراء المغربية مجرد قضية ترابية تُدار بمنطق الدفاع، بل أصبحت مختبراً للسيادة التنموية التي يتحدث عنها الملك محمد السادس في خطبه الأخيرة. فالمغرب لم يكتف بتثبيت شرعيته التاريخية على الأرض، بل حوّل الصحراء إلى منصة استراتيجية للتنمية الإفريقية، عبر مشاريع مهيكلة مثل ميناء الداخلة الأطلسي، والطريق السريع تزنيت–الداخلة، ومناطق الاستثمار الطاقي التي تُعيد رسم خريطة الاقتصاد الإقليمي.

في هذا التحول، تتجسد فلسفة جديدة للمسيرة: من مسيرة التحرير إلى مسيرة البناء. إنها عودة التاريخ إلى الجغرافيا، ولكن بأدوات القرن الحادي والعشرين؛ حيث تترجم المشاريع التنموية على الأرض ما أكدته البيعة والسيادة عبر القرون.

لم يعد النقاش حول مغربية الصحراء مطروحاً في المحافل الدولية كما كان، بل تحوّل إلى نقاش حول النموذج المغربي في ربط الشرعية السياسية بالتنمية الملموسة.

وهنا، كما يقول الصحفي بوشعيب البازي:

«المغرب لم يربح الصحراء بالبندقية ولا بالدبلوماسية وحدها، بل بالقدرة على تحويل الرمال إلى أفق. فالمسيرة التي بدأت بالقرآن في اليد، تستمر اليوم بمشاريع التنمية في الميدان. إنها المسيرة الثانية، مسيرة الدولة التي لا تنام على أمجادها، بل تبنيها كل يوم».

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com