تحت رمال “العرق الشرقي الكبير”… أطماع الجزائر في أراضٍ تونسية منسية

بوشعيب البازي

في أعماق الصحراء الممتدة بين الجزائر وتونس، وتحديدًا تحت رمال العرق الشرقي الكبير، تخفي الخرائط واحدًا من أكثر الملفات المنسية في التاريخ المغاربي ، قضية نحو 20 ألف كيلومتر مربع من الأراضي التونسية التي آلت إلى الجزائر سنة 1962، وهي مساحة تعادل تقريبًا مساحة سلوفينيا أو السلفادور.

لكن وراء هذا الخط الحدودي المرسوم على الورق، تكمن ثروة نفطية هائلة تمثّل اليوم أحد أعمدة القوة الاقتصادية الجزائرية. إنها قصة اقتطاع جغرافي تحوّل مع مرور الزمن إلى مأساة جيواقتصادية، حاول الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة عبثًا تصحيحها بعد الاستقلال.

حدود رسمها المستعمر… واحتفظت بها القوة

يعود أصل هذا النزاع إلى بدايات القرن العشرين، حين رسمت فرنسا حدود تونس والجزائر بالمسطرة والفرجار، متجاهلة تمامًا الواقع التاريخي والجغرافي والاجتماعي للمنطقة. فقد خضعت الجزائر آنذاك لنظام “الاندماج” بوصفها “مقاطعة فرنسية”، في حين بقيت تونس مجرد “محميّة”، وهو وضع سمح لفرنسا بأن تقتطع من أراضيها ما يخدم مصالحها الاستراتيجية.

توالت الاتفاقيات الفرنسية في 1901 و1910 و1929، وكلّها صبّت في اتجاه واحد: منح الأفضلية للإدارة الجزائرية على حساب تونس. وعندما اندلعت حرب التحرير الجزائرية، عمّقت باريس الجرح بترسيم “خط شال” الشهير، الذي نقل الحدود مؤقتًا نحو الداخل التونسي، بذريعة منع تسلل مقاتلي جبهة التحرير الوطني.

لكن هذا “الترسيم المؤقت” صار واقعًا دائمًا، مخفيًا تحت الرمال التي تُخفي بدورها ثروات نفطية لا تُقدّر بثمن.

صحراء غنية… لا تعرف الفقر

المساحة التي تتحدث عنها تونس في مذكّراتها الدبلوماسية تبلغ نحو 20 ألف كيلومتر مربع، أي ما يفوق مساحة دولة الكويت، وتضمّ مناطق مثل فور سان وقرات الحامل، وأهمها حوض البُرمـة النفطي الشهير.

في أواخر الخمسينيات، اكتُشفت هناك احتياطات هائلة من النفط بعد منح فرنسا رخص تنقيب لشركات دولية كـ”إسو” و”CFP”. وقد بدأ استغلال حقل “البُرمـة” سنة 1959، على تخوم الحدود المتنازع عليها، ليصبح لاحقًا من أكبر الحقول المنتجة في الجزائر.

ولا يقف الأمر عند هذا الحقل وحده؛ فمناطق ورقلة وبركين القريبتان تحتويان على احتياطات تقدّر بستة مليارات برميل، تمثل اليوم نحو 11% من إجمالي المخزون النفطي الجزائري.

بكلمة أخرى، فإن ما تعتبره تونس “أرضًا مسلوبة” هو في الواقع القلب الاقتصادي للطاقة الجزائرية.

قال بورقيبة ذات مرة: “الحدّ الذي نطالب به يشمل امتيازات نفطية منحتها فرنسا للجزائر في العرق الشرقي الكبير… لكن تلك الأرض كانت تونسية بالأمس القريب.”

بورقيبة… حين دافع عن حقه بالنفط والتاريخ

منذ نيل الاستقلال سنة 1956، جعل الرئيس الحبيب بورقيبة من ملف الحدود الجنوبية قضية سيادة وطنية. استند إلى خرائط عثمانية تعود إلى القرن الثامن عشر ووثائق ملكية تاريخية تثبت أن الصحراء الشرقية كانت امتدادًا طبيعيًا لتونس.

في خطاب شهير سنة 1959، دعا بورقيبة إلى وضع حدّ لهذا “الترسيم المؤقت”، واقترح حلّين:

إمّا تحويل الصحراء إلى منطقة استغلال مشترك بين دول المغرب الكبير،

وإمّا إعادة رسم الحدود بما يضمن لتونس “امتدادها الصحراوي الطبيعي”.

كان خطابه متّزنًا ومنطقيًا، لكن رياح السياسة كانت تجري بما لا تشتهي تونس.

من وعود الإخوة إلى منطق القوة

حين استقلت الجزائر سنة 1962، ظنّ بورقيبة أن الباب فُتح لتسوية أخوية. بل إن الحكومة المؤقتة الجزائرية وعدته بمناقشة الملف “بين الأشقاء”. غير أنّ انقلاب الجيش بقيادة أحمد بن بلة ثم بومدين بدّل المعادلة.

رفعت الجزائر مبدأ “قدسية الحدود الموروثة عن الاستعمار”، وهو المبدأ الذي صار لاحقًا عقيدة في منظمة الوحدة الإفريقية، لضمان بقاء الأراضي التي منحتها فرنسا دون مراجعة.

بلغ التفاؤل التونسي ذروته سنة 1964 في “اتفاق القاهرة” السري بين بورقيبة وبن بلة، حيث تمّ الاتفاق مبدئيًا على إعادة 20 ألف كيلومتر مربع إلى تونس. لكنّ الاتفاق دُفن بانقلاب هواري بومدين سنة 1965، الذي تبنّى نهجًا صارمًا وأغلق الملف نهائيًا.

في أبريل 1968، وتحت ضغط شديد، اضطرت تونس إلى توقيع اتفاقية نهائية تُثبّت الحدود كما رسمتها فرنسا عام 1929، وهو ما اعتبره المؤرخون أكبر تنازل جغرافي في تاريخ تونس الحديث.

وفي يناير 1970، وقّع وزير الخارجية الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ونظيره التونسي (نجل بورقيبة) اتفاقًا مكمّلًا أنهى رسميًا النزاع… لكن دون أن يُنهي الجرح.

ذاكرة لم تندمل

منذ الثمانينيات، خيّر البلدان دفن هذا الملف في رمال النسيان، مقابل تعاون أمني واقتصادي متبادل. غير أنّ الذاكرة الوطنية التونسية لم تنسَ. فعدد من المفكرين والباحثين يواصلون اليوم التذكير بأن الجزائر “تستثمر في نفط أرضٍ ليست لها”، وأن التاريخ لم يقل كلمته الأخيرة بعد.

أما تونس الرسمية، المثقلة بأزماتها الداخلية، فقد آثرت الهدوء على المطالبة، مفضّلة الحفاظ على استقرار الحدود في منطقة مضطربة.

لكنّ السؤال يظل معلّقًا:

هل يمكن أن تُبنى وحدة مغاربية حقيقية فوق أرضٍ اقتطعت بالقوة؟ تحت رمال العرق الشرقي الكبير، ما تزال الحقيقة مدفونة… إلى أن يحين وقت كشفها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com