الجزائر.. جمهورية الحبس والذاكرة الثقيلة

حنان الفاتحي

Jean-Noël Barrot, ministre français de l'Europe et des Affaires étrangères, s'adresse au "Sommet du futur" au siège des Nations Unies à New York, États-Unis/Photo prise le 23 septembre 2024/REUTERS/Caitlin Ochs

من يراقب العلاقات الفرنسية الجزائرية اليوم، يكتشف أن «الحوار الصارم» الذي أعلن عنه وزير الخارجية الفرنسي جان-نويل بارو لا يجري بين دولتين مستقلتين، بل بين باريس ونسخة بيروقراطية من الزمن العثماني عالقة في القرن الماضي.

ففي الجزائر، لا أحد يُعتقل فعلاً: الناس «يُربَّون على الوطنية» داخل السجون، ويُمنحون فرصة للتأمل في الوحدة الوطنية خلف القضبان.

بوعلام صنصال… جريمة الأدب في بلد لا يقرأ

الكاتب الكبير بوعلام صنصال، المتهم بـ«المساس بالوحدة الوطنية»، لم يكتب بياناً سياسياً ولا خطط انقلاباً، بل كتب رواية. وفي الجزائر، كما يبدو، الخيال أخطر من السلاح، والرواية تُصنف ضمن الجرائم ضد الدولة، لأن فيها شخصيات تفكر!

خمسة أعوام من السجن لتفكير أدبي حر… وكأن النظام الجزائري أراد أن يؤكد للعالم أن الكتب أخطر من الكلاشينكوف، وأن الرواية في بلاده تحتاج إلى ترخيص من وزارة الدفاع لا من وزارة الثقافة.

صحفي فرنسي متهم بالإرهاب… لأنه سأل سؤالاً!

أما الصحفي الفرنسي كريستوف غليز، فقد اكتشف الوجه الآخر لـ«حرية الصحافة» الجزائرية: تلك التي تبدأ بتصريح وتصوير في مطار هواري بومدين وتنتهي بسبع سنوات في سجن الحراش.

تهمة «تمجيد الإرهاب» لم تكن سوى طريقة أنيقة لتذكير العالم بأن في الجزائر الإرهاب الوحيد المسموح به هو إرهاب الدولة. أما الصحافة، فمكانها الطبيعي بين القضبان أو في بيانات وزارة الاتصال التي لا تتصل بأحد.

باريس تُفاوض.. والجزائر تُعاند

يقول الوزير الفرنسي إن باريس تخوض «حواراً صارماً» مع الجزائر. صارم؟ الكلمة مبالغ فيها قليلاً، لأن النظام الجزائري يتقن فن المماطلة أكثر من أي جهاز بيروقراطي في التاريخ.

في كل مرة تطلب فيها فرنسا الإفراج عن مواطنيها، تُخرج الجزائر من أرشيفها خطاباً من الرئيس الراحل بومدين، وتبدأ محاضرة عن الاستعمار، وكأنها تحاكم نابوليون لا بوعلام صنصال.

أما «الحوار» فهو في الغالب أحادي الاتجاه: فرنسا تتحدث عن حقوق الإنسان، والجزائر تردّ بـ«الكرامة الوطنية».

اتفاق 1968… آخر ما تبقّى من ودّ

الوزير الفرنسي ألمح إلى إمكانية مراجعة اتفاق 1968 حول الهجرة. لكن في الجزائر، هذا الاتفاق ليس وثيقة قانونية بل وثيقة مقدسة.

فهو الضمان الوحيد لبعض المسؤولين بأنهم سيجدون مستشفى فرنسياً عند أول أزمة صحية، أو منزلاً في ضواحي باريس عندما تشتد حرارة الغضب الشعبي في العاصمة الجزائرية.

ومن الطريف أن النظام الذي يصف فرنسا بـ«العدو الاستعماري» لا يتردد في إرسال وزرائه إليها كلما ارتفعت حرارة الحمى السياسية في المرادية.

الجنوب الجزائري… مسرح بلا جمهور

الوزير بارو تحدث عن «التعاون الأمني» في الجنوب الجزائري، حيث تنشط الجماعات الإرهابية. لكن الحقيقة أن الجزائر تُفضّل الاحتفاظ بالإرهاب كـ«ورقة سياسية» تُذكّر بها الغرب بين الحين والآخر.

ففي كل مرة تُسأل فيها عن الإصلاح أو الديمقراطية، تُلوّح بورقة «الاستقرار»، وكأنها تقول لفرنسا وأوروبا: «دعونا نحكم على طريقتنا، وإلا سنفتح الحدود نحو الساحل».

إنها دبلوماسية الرعب، فن جزائري أصيل يُدرّس في مدارس السياسة هناك، جنباً إلى جنب مع دروس «تاريخ الثورة» و«فن الخطاب الثوري في غياب الثورة».

الجزائر الجديدة… بوجه قديم

النظام الجزائري يتحدث كثيراً عن «الجزائر الجديدة»، لكن يبدو أن الجديد الوحيد فيها هو الملصقات الرسمية. فالمؤسسات هي نفسها، والوجوه نفسها، والاتهامات نفسها، والسجون نفسها.

في الجزائر الجديدة، يكفي أن تكتب، أو تفكر، أو تسأل، حتى تتحول إلى تهديد للوحدة الوطنية.

فرنسا بين الحرج والمصلحة

أما فرنسا، فهي تُناور بين الحرج الأخلاقي والمصلحة الاستراتيجية. تريد الإفراج عن مواطنيها، لكنها لا تريد إغضاب النظام الذي يتحكم في صنبور الغاز وفي ملفات الهجرة.

إنها دبلوماسية السير على البيض، بين دولةٍ لا تعترف بحرية التعبير، وأوروباٍ لا تملك الشجاعة لفرضها.

قد يفرج النظام الجزائري يوماً عن صنصال وغليز، لكن من سيُفرج عن الجزائر نفسها من هذا الماضي الثقيل؟

بلد يعيش منذ ستين عاماً على ذكرى ثورة تحولت إلى مؤسسة، وذاكرة تحولت إلى نظام حكم، ومقاومة تحولت إلى طريقة لتبرير كل شيء.

إنها جمهورية تُدين الأدب وتخاف من السؤال، وتحتفل بالاستقلال كل عام بينما لا تزال سجينة خطابها الأول.

وفي انتظار الإفراج عن الكاتبين، سيبقى عنوان المرحلة كما هو: “الجزائر الجديدة… في سجن قديم.”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com