منذ أن أعلنت فرنسا، في خطوة مفصلية، اعترافها بسيادة المغرب الكاملة على صحرائه الجنوبية، أعادت رياح التاريخ تحريك رمال الصحراء الشرقية المنسية، وطرحت مجددا سؤالا ظل مسكوتا عنه طيلة عقود: من رسم حدود المغرب والجزائر وتونس؟ ولمصلحة من؟
حدود رسمتها المكاتب لا الخرائط الطبيعية
حين فرضت فرنسا وصايتها على شمال إفريقيا مطلع القرن العشرين، لم تكتف بإعادة تشكيل الكيانات السياسية، بل أعادت رسم الخرائط بما يخدم مصالحها الاستراتيجية. فقد فصلت بين القبائل والعشائر، وقطعت الأواصر التجارية والاجتماعية التي كانت تربط بين المغرب وصحرائه الشرقية، كما اقتطعت أجزاء واسعة من التراب المغربي، مثل تندوف وبشار وكورارة، لتلحقها بالجزائر الفرنسية عام 1952، في عملية هندسية استعمارية لم تراعِ أي منطق تاريخي أو إثني أو جغرافي.
النتيجة كانت واضحة، مغرب مجزأ وحدود مصطنعة بقيت مصدر توتر إقليمي دائم، حتى بعد الاستقلال الشكلي لكل من دول المغرب العربي.
الاعتراف الغربي بالصحراء المغربية: بداية تصحيح للتاريخ
الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه عام 2020، ثم الدعم الفرنسي الأخير، لم يكونا مجرد مواقف دبلوماسية؛ بل بمثابة تصحيح لمسار تاريخي استعماري طال أمده. فبعد أكثر من أربعة عقود من النزاع المفتعل حول الصحراء الغربية، بدأ العالم يستوعب مشروعية الموقف المغربي، القائم على وحدة التراب الوطني وارتباط السكان التاريخي بالعرش العلوي.
لكن هذا الاعتراف أعاد إلى السطح تساؤلات أعمق، إذا كانت فرنسا قد أقرت اليوم بشرعية السيادة المغربية على الصحراء الغربية، أليس من المنطقي أن يُفتح النقاش ذاته حول الصحراء الشرقية التي سلختها باريس عن المغرب دون أي استشارة أو معاهدة ملزمة؟
صحراء منسية في الذاكرة المغربية
تاريخيا، كانت الصحراء الشرقية مجالا طبيعيا للقبائل المغربية الرحل، وممرا تجاريا رئيسيا نحو إفريقيا. الوثائق العثمانية والفرنسية نفسها تشير إلى أن سيادة المغرب على تلك المناطق كانت واقعا قائما قبل التقسيم الكولونيالي. وحتى بعد استقلال الجزائر سنة 1962، لم تُفتح ملفات الحدود إلا في جو من الحساسية السياسية، رغم أن اتفاقية إيفران (1969) واتفاقية وجدة (1972) لم تحسما كل القضايا.
اليوم، مع التحولات الجيوسياسية العميقة في المنطقة، بدأ نقاش جديد يتشكل داخل النخب المغربية حول ضرورة استعادة الوعي بالحدود التاريخية الحقيقية، لا تلك التي رُسمت بمسطرة المستعمر.
تونس والجزائر… صدى آخر للتاريخ
المثير أن هذا الجدل لا يقتصر على المغرب. ففي تونس أيضا، برزت أصوات من بعض الأكاديميين والسياسيين تطالب بإعادة النظر في بعض الحدود الشرقية والجنوبية التي رسمتها فرنسا في عهد الحماية، معتبرة أن مناطق مثل رمادة وبرج الخضراء لم تكن ضمن “التراب التونسي الأصلي” قبل التقسيم الإداري الفرنسي.
هذا النقاش التونسي ـ المغربي المتوازي، ولو في مستويات مختلفة، يعكس وعيا متزايدا بأن الخرائط الاستعمارية لا يمكن أن تظل إلى الأبد خطا أحمر.
من الذاكرة إلى الفعل الدبلوماسي
المغرب، وهو يستعيد اليوم مكانته كقوة إقليمية صاعدة، لا يتحدث بمنطق المطالبة الترابية العدوانية، بل بمنطق العدالة التاريخية والسيادة القانونية. فالحديث عن الصحراء الشرقية ليس دعوة للحرب، بل للتاريخ، وليس لإثارة الأحقاد، بل لإعادة التوازن إلى ذاكرة مغاربية شوهتها فرنسا بين مكاتب باريس والجزائر العاصمة.
إعادة فتح هذا الملف ـ دبلوماسيا، أكاديميا، وقانونيا ـ لا يعني بالضرورة نزاعا جديدا، بل قد يكون فرصة لبناء مصالحة مغاربية حقيقية على أسس العدالة التاريخية لا على خرائط استعمارية متآكلة.
حين تعود الذاكرة إلى الميدان
الاعتراف الدولي بالصحراء المغربية فتح الباب أمام مرحلة جديدة من إعادة قراءة التاريخ المغاربي. فالمغرب اليوم ليس ذلك البلد الذي يقبل بتزييف حدوده أو طمس ذاكرته. وحين يتحدث بعض السياسيين والمفكرين عن الصحراء الشرقية، فإنهم لا يطالبون بتوسيع رقعة جغرافية، بل بتوسيع رقعة الحقيقة.
لقد آن الأوان لفرنسا، التي خطت الحدود يوما بمسطرة الاستعمار، أن تتحمل مسؤوليتها التاريخية، لا بالاعتراف فقط، بل بتصحيح ما أفسدته خرائطها.