المسيرة الخضراء في نسختين: بين موكب مَنت-لا-جولي المهيب وحفل السفارة الباهت في بروكسيل

بوشعيب البازي

في فرنسا… المسيرة تتحول إلى مهرجان وطني بطعم الحنين

السبت 8 نونبر 2025، شهدت مدينة مَنت-لا-جولي شمال باريس مشهداً غير مألوف، آلاف المغاربة يتوافدون بأعلام حمراء ونجوم خضراء، دراجات نارية تزمجر في الشوارع، شاحنات مزينة بالصور التاريخية، وموكب طويل من الجالية المغربية يحيي الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء.

المنظمون أرادوا أن تكون التظاهرة رسالة مزدوجة، وفاء للوطن الأم وإثبات حضور للجالية المغربية في قلب الجمهورية الفرنسية.

بدأ الموكب من ساحة سانت-آن عند الساعة الواحدة ظهراً، بحضور فنانين وشخصيات جمعوية من مختلف مناطق فرنسا، وتحول المكان إلى عرس وطني بطابع شعبي. فهناك من جاء متدثراً بالعلم المغربي من الرأس إلى القدم، وآخرون يوزعون الشاي بالنعناع وكأنهم في ساحة جامع الفنا، بينما تعالت الزغاريد كلما مرّت دراجة نارية مزينة بصور الملك الحسن الثاني.

كان المشهد مهيباً ومليئاً بالعاطفة، لكنه أيضاً لا يخلو من تلك اللمسة التنظيمية الباريسية التي تحوّل كل شيء إلى عرض بصري محسوب.

أما في بلجيكا… فالصورة أكثر هدوءاً من اللازم

في بروكسيل، كان المشهد على النقيض تماماً. لا مواكب، لا زغاريد، لا دراجات ولا حشود. فقط قاعة حفلات أنيقة استأجرتها السفارة المغربية للاحتفال بالمناسبة، حيث عُرضت بعض الصور القديمة للمسيرة الخضراء، وتُليت كلمات بروتوكولية قصيرة، قبل أن يتجه الجميع نحو البوفيه المفتوح، في مشهد يشبه أكثر حفلاً دبلوماسياً منه تخليداً لملحمة وطنية.

السفير المغربي في بلجيكا، كعادته، ألقى خطاباً مقتضباً ومنسقاً إلى حد النعاس، استعرض فيه “العلاقات المتميزة” بين المغرب والجالية، و”النجاحات الدبلوماسية للمملكة”، ثم ختم بابتسامة دبلوماسية من تلك التي تعني بلغة البروتوكول، “الحفل انتهى، ننتظر العودة إلى الوطن”.

حتى الحضور بدا باهتاً، لا أثر لتلك الحماسة التي أشعلت شوارع مَنت-لا-جولي، وكأن المناسبة هنا مجرد واجب إداري موسمي أكثر من كونها لحظة رمزية وطنية.

قنصليات فرنسا… اجتماع بنكهة وطنية

اللافت أن جميع القناصل المغاربة بفرنسا اجتمعوا في مَنت-لا-جولي خلال هذه المناسبة، في مشهد غير مسبوق. قناصل من باريس، ليون، تولوز، أورليان، وبوردو، حضروا لتوحيد الصفوف خلف فكرة واحدة: أن الجالية المغربية بفرنسا هي اليوم الواجهة الأكثر نشاطاً وتفاعلاً مع رموز الذاكرة الوطنية.

وقد بدا واضحاً أن القنصليات — رغم طابعها الإداري الجاف عادة — أرادت هذه المرة أن تظهر بمظهر “المؤسسة المواطِنة”، القريبة من الناس، وربما أيضاً لإرسال رسالة ضمنية للسفارة في بلجيكا بأن الاحتفال بالوطن لا يكون بالنياشين، بل بالناس.

بين الحماس الشعبي والملل الدبلوماسي

الفرق بين الحدثين يكاد يلخص حالة الشتات الدبلوماسي المغربي في أوروبا:

في فرنسا، الجالية تصنع المشهد وتؤطر العاطفة الوطنية بصدق عفوي.

وفي بلجيكا، المؤسسة الدبلوماسية تصنع الخطاب، لكنها تفقد حرارة الانتماء في زحمة البروتوكول.

النتيجة؟

في مَنت-لا-جولي، كانت المسيرة الخضراء تمشي فعلاً، بأقدام الناس وقلوبهم.

أما في بروكسيل، فكانت تُعرض على شاشة عرض، كما لو أن الذكرى حدثت في كوكب آخر.

حين تتحول المسيرة إلى مرآة

الاحتفال بالمسيرة الخضراء، في كل مكان، هو امتحان صغير للذاكرة الوطنية. لكنه أيضاً مرآة كبرى للدبلوماسية المغربية: حين تكون قريبة من الناس، تنبض بالحياة؛ وحين تحبس نفسها في القاعات المكيفة والخطابات الخشبية، تختنق.

قد يكون المشهدان متناقضين، لكنهما معاً يرويان قصة واحدة:

أن المغرب الحيّ يعيش خارج الجدران الرسمية، وأن الروح التي حرّكت 350 ألف مغربي في صحراء العيون عام 1975، ما تزال تسير اليوم على إسفلت مَنت-لا-جولي… لا على سجاد بروكسيل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com